"ليال بلا نوم".. مواجهة بين جلاد وضحيته
تاريخ النشر: 04/11/13 | 7:10حفرت إليان الراهب في فيلمها "ليال بلا نوم" عميقا في الذاكرة الجماعية اللبنانية، واسترجعت أحداثا يحاول اللبنانيون نسيانها، 15 سنة من تدمير ممنهج لكل ما يمت للحياة بصلة، تركت آثارها ثقيلة على نفوس اللبنانيين.
لكن النسيان الذي آثروه بقي حيا في اللاوعي وأعاد إنتاج بيئات مشابهة في مناطق مختلفة لعل ما تشهده طرابلس بشمالي لبنان أبرز دليل عليها.
ويعالج الفيلم الوثائقي الروائي قصة أسعد الشفتري (الجلاد التائب) بعدما كان الرجل الثاني في مخابرات حزب القوات اللبنانية والمسؤول عن العديد من جرائم القتل والاغتيال والخطف أثناء الحرب الأهلية التي وقعت في لبنان بين عامي 1975 و1990، ومريم السعيدي (الضحية) التي لم تمل من البحث عن ابنها الذي فُقد خلال معركة كلية العلوم في الحدث (أحد أبرز خطوط التماس إبان الحرب الأهلية) عام 1982 عندما كان مقاتلا في الحزب الشيوعي.
فيلم مزعج
الفيلم بلا شك "مزعج" كما أرادته إليان، مزعج لكل من عايش تلك الحقبة وفضّل النسيان لأنه ما يلبث أن يكتشف أنه لا بد من مراجعة نقدية مع الذات لتلك المرحلة، تساهم في إعادة إنتاج جيل وطني يؤمن بلبنان وطنا لجميع أبنائه. ومزعج أيضا لكل من لم يعاصر تلك الفترة فيدرك عبر الفيلم أن لبنان الذي يعرفه لم يرتق أبناؤه بعد ليستحقوه وطنا.
وتقول إليان إن الفيلم ليس عن الحرب الأهلية، بل هو نموذج عن حالات كثيرة من مفقودي الحرب ليست كلها تشبه بعضها ولا بالضرورة تعبر عن بعضها ولكن اختيار الشخصيات كان بفعل الترابط بينهما.
فمريم عالقة في الوقت ولا تزال القصة حيّة داخلها وقادرة على تذكير الناس وكأنها الضمير الذي يعيد البوصلة إلى مكانها الصحيح. أما الشفتري ففرض نفسه لأنه الوحيد الذي قدم اعتذارا عما اقترفه بالحرب الأهلية.
لا للنسيان
وسعت المخرجة -بمساعدة المنتج وكاتب السيناريو نزار حسن- إلى الشرح بجرأة، كيفية تركيب الأيديولوجيات في تلك الفترة. ورغم أن الشفتري لم يتجرد من الحالة اللبنانية ولديه خطوط حمر وهي الطوائف والأحزاب، فهو -بحسب إليان- ينتظر الحالة اللبنانية أن تصبح جاهزة ليضع كل المعلومات على الطاولة ويدلي بما لديه.
وترفض إليان الراهب الوقوف عند أي حدود في الفيلم، فهي غاصت عميقا في تعريف كيف يكون الإنسان في الحروب؟ وكيف تتكون شخصيته؟ وكيف يدمر نفسه ومن حوله؟ وكيف يكون الجلاد أيضا ضحية؟
وتعترض المخرجة اللبنانية على النسيان المتعمد والاستسلام المطلق "لأمراء الحرب". واللافت أن الأسلوب التحقيقي الذي استخدمته مع العناصر التي تؤلف الأفلام الروائية قدمتهم في وثائقي مع شخصيات حقيقية من 128 دقيقة.
وقالت إنها انطلقت من أسئلة كانت تجول بخاطرها حول طبيعة البشر في الحروب الأهلية تجسدت في شخصيتينْ ونجحت في الإجابة عن أسئلتها، ولكنها فتحت أسئلة أكبر تنتظر من المشاهد أن يبحث بنفسه عن أجوبة لها.
الجلاد والضحية
في نهاية الفيلم تصل إليان مع مريم إلى مكان المقبرة الجماعية التي أخبرها مقاتل سابق في القوات اللبنانية، أن مقاتلي الحزب الشيوعي بينهم ماهر دُفنوا فيها، بعدما أكد لها أن أحدا لم يبق حيا من الذين لم يتمكنوا من الهرب.
عندها تقف مريم صامتة لحوالي ثلاثين ثانية ثم تسير في الاتجاه المعاكس، لتبدو تلك الثواني مدمرة لصراع خاضته على مدى ثلاثين سنة لكشف مصير ابنها.
الأفكار التي دارت في خلدها في تلك اللحظات الثقيلة بقيت غامضة، لكنها أزاحت حملا ثقيلا عن ظهرها، وأثبتت بالتجربة الحية أن اكتشاف مصير المختطفين حتى لو كانوا في مقابر جماعية أفضل من بقائه مكتوما، وهو ما أكدته مريم قائلة: "إن نظرتها للأمور تغيرت بعد الفيلم، وإنها ستتابع البحث عن ماهر، مشيرة إلى أن يقينها ببقائه حيا، تغير بعد الفيلم".
أما الشفتري الذي لم يستطع -طيلة الثلاث سنوات ونصف السنة التي استغرقها إنتاج الفيلم- مساعدة مريم على كشف مصير ابنها، فهو قدّم بقصد أو بدون قصد إدانة لكل المشاركين في الحرب الأهلية دون أن يسميهم، عبر فضح ممارساته الشخصية التي انطلقت من تربية منزلية وفهم خاطئ لمسيحية استُعير لها تفوق غير مبرر على الديانات الأخرى، ومضى لتطبيقها على أرض الواقع.
لكنه اليوم يفهم المسيحية بطريقة مختلفة، ويقول إن مسيحيته تدعوه للتوجه لكل الشباب وتوعيتهم كي لا يدخلوا في دوامة العنف والتعصب والجهل التي تم جرهم إليها.
ولم يكتف "الجلاد التائب" بالندم، بل يعمل منذ تقديم اعتذاره قبل حوالي عشر سنوات على مساعدة أهالي المخفيين لإيجاد أبنائهم، لكنه لا يزال يخبئ الكثير من الأسرار التي كان شاهدا عليها، متذرعا بأنه لا يستطيع الحديث إلا عن أعماله، لأنه لا يسمح لنفسه بالحديث عن أفعال جماعات وتنظيمات.