المنايا خبط عشواء!
تاريخ النشر: 10/07/16 | 10:45(كلمة الكاتب في أربعين أخيه د. سليم يوسف جبران)
ما أكثر ما ذمّ الناس هذه الحياة على هذه الأرض. جعلوها الغانية التي تذهب بعقول عاشقيها، والأفعى تغيّر كلّ آونة ثيابًا، والعدوّ في ثياب صديق، وسوقا للخُسران. فطلاق الدنيا مهر الآخرة، وحبّها سبب فساد العقل، بل هورأس الفتن، وأصل المِحن:
أخا الدنيا أرى دنياك أفعى—— تبدّل كلّ آونة إهابا
ومن عجب تشيّب عاشقيها—— وتُبليهمْ وما زالت كَعابا
تلك هي قولة المغلوب. وماذا يقول من لم يستطعْ حيازتها ودوامها غيرَ ذمّها وهجائها؟! أصْدق منهم جميعا من قال: يوم فوقها ولا سنوات تحتها. نحبّ الحياة ونُغْليها، لكنّنا نذمّها ونشتمها إذ نعجز عن احتوائها، وضمان دوامها !
قالوا أيضا إنّ الموت مقدّر وساعته محسوبة مكتوبة. فما ذنب آلاف الجنود يموتون ضحيّة جنون طاغية؟ ما جريرة الطفل يموت مشويّا في سيّارة أُحكمت أبوابُها تحت الشمس اللاهبة فانقلبت أتّونًا؟ ما ذنبه إذا نسيه أبوه فيها، ولمّا يبلغ السنة؟
رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ، مَنْ تُصبْ تُمتْهُ، ومن تُخطئْ يعمّرْ فيهرمِ
قبل الأديان كلّها، كان الموت أيضا مأساةَ الإنسان. وهل من مأساة كالموت؟ مغادرة عالم عشته وعرفته إلى مجهول لم تتعرفْه، ولم تذقْه، ؟ هل انتهت رحلة جلجامش، أكثرَ من ألفيْ سنة قبل المسيح، بحثا عن عشبة الخلود، بغير الخُسران المبين؟!
هذا أخي سليم. سبقنا، ولم نكنْ نحسبها له. ثلاثة كنّا. متواليةً جعل الوالد أسماءها من السلم والسلامة: سليمان أنا، وسالم وسليم، وبهذا الترتيب . سليمان تذكيرا بعمّ الوالد، سليمان الجبران، وسالم لأنّ أمّنا وقعت من شاهق، وهي حبلى به، فلم يًصبْ بمكروه، وسليم أستنفادا للمشتقّ. سبقنا سالم، أوسطُنا، واليوم تلاه سليم، ولم تكنْ هذه محسوبة. وأمّا أنا فقد كنت قاب ساعات من الموت، فرجعت لأرثي أخي الصغير! هذه هي الدنيا، وهذا هو الموت. خبط عشواء، كما قلنا!
أعترف أمامكم أنّي لم أعرف أخي سليم، كما يجب على الأخ معرفة أخيه. فرّقتنا الأيّام ومشاغلها. سار كلّ في طريق فلم نلتق إلا لمامًا. لكنّي عرفته عن كثب في بضع سنوات عمل فيها في أحد متاجر حيفا، وعملت أنا معلّما في دالية الكرمل. أقمنا ثلاثتنا، سليم وسالم وأنا في غرفة واحدة ليلا، ليذهب كلّ منّا إلى عمله صباحا. لم يشكُ يوما ولم يتذمّر من ظروف عمله ذاك، بل أخلص لموقعه الشاقّ يومذاك، تماما كما أخلص لعمله طبيبا فيما بعد.
بعد وفاته سمعنا الكثير عن مسلكه وإخلاصه في عمله طبيبا. لم يرتفع بطبّه عن الناس حوله، أبناء قريته وأبناء شعبه، بل جعله وسيلة في خدمتهم، وأداة لمداواة جراحهم. لم ألحظ فيه يوما شموخ الطبيب الأوّل في قريتنا، ولولا ملاحظاته العلميّة في لقاءاتنا، أحيانا، لنسيت أنه طبيب. قضى السنوات الطوال درسا وسهرا، ثمّ قضى حياته بعدها عملا مخلصا.. عزاؤنا أوّلا أنّه ترك بعده سيرةً عطرة، طبيبا وإنسانا، وهو خير عزاء! وعزاؤنا الثاني أنّه ترك لنا أيضا أولادا طيّبين، عرفوا نهجه فحفظوه غيبا، وعلى نهجه ذاك هم سائرون.
هذه هي الحياة، بحلوها ومرّها. نشكركم جميعا. نشكر كلّ من شاركنا هذا الفراق القاسي المفاجئ. نرجو لكم جميعا ألّا تُفجعوا بعزيز!
سليمان جبران