ما هي حدود الكذب بين الزوجين؟
تاريخ النشر: 10/07/16 | 11:47الحمدُ لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
الأصل في الكذب هو الحرمة لما فيه من مضار على الفرد والأسرة والمجتمع، فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام، ويعده من خصال الكفر والنفاق…
قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى –: ” اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً، فيجوز في بعض الأحوال بشروط، ومختصر ذلك: أنّ الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب، جاز الكذب. ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً، وإن كان واجباً، كان الكذب واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله وأخفى ماله، وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها، وجب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كله أن يورّي، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الحال “. [ رياض الصالحين ص404 ].
وقد استدل العلماء على هذا المعنى في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: ( الرجل يقول القول يريد به الإصلاح – بين الناس –، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ). [ مسلم رقم 2605 ].
فمن أراد الإصلاح بين الخصمين جاز له الكذب من زيادة في الكلام الطيب أو بشيء من تزيين الكلام على الآخر وإنكار ما قاله أحدهما في الآخر من سب وإهانة.
وكذلك أجاز الشرع للمسلم أن يكذب حتى لا يكشف الأسرار، ولا يقول المعلومات عن جيش المسلمين أو أن يخبر عن مواطن الضعف في الجبهة الداخلية تحت عنوان الصدق، بل الواجب إخفاء ذلك عن العدو لأنّ الحرب خدعة.
وكذلك يجوز للزوج أو الزوجة أن لا يخبر أحدهما الآخر عن ماضيه العاطفي , ومن الحكمة والصواب أن لا يبوح الواحد للآخر عن مشاعر وأحاسيس يكون الصدق فيها مساً لمشاعر الآخر أو أن يخبرها بأنّه يحبها وأن تخبره بحبها له ولو لم تكن المشاعر صادقة بشرط الاّ يكون في هذا الكذب استحلال لمحرّم أو مخادعة للهروب ممّا يجب على أحدهما .
قال الخطابي: ” كذب الرجل على زوجته أن يعدها ويمنّيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها ويصلح من خلقها “. [ عون المعبود 13/179 ].
وقال الإمام النووي: ” وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به إظهار الود والوعد بما يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في صنع ما عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين “. [ شرح النووي على مسلم 16/158 ].
وممّا يذكر في عهد عمر رضي الله عنه عن ابن أبي عذرة الدؤلي، وكان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن، فطارت له في الناس أحدوثة يكرهها فلما علم بذلك، أخذ بيد عبد الله بن الأرقم، حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضينني؟ قالت: لا تنشدني، قال: أنشدك بالله، قالت: نعم، فقال لابن الأرقم: أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم النساء وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم! فسأله عمر فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمتها، فقال : أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه ؟ فقالت : إني أول من تاب وراجع أمر الله , وقالت: إنه ناشدني بالله فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي! فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت التي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب. ”
يقول د. القرضاوي معلقاً: ” وهذه والله إحدى الروائع العمرية، فلم يكن مجرد رئيس دولة، بل كان إلى جوار ذلك عالماً مربياً وفقيهاً ومفتياً، إنه يطبق هنا الحديث النبوي في حديث المرأة مع زوجها والرجل مع زوجته، فلا يرى مانعاً أن تخبره بالكذب إبقاء على الزوجية، ثم ألقى حكمته الخالدة: إن أقل البيوت ما يبنى على الحب، وإنما يتعاشر الناس بالإسلام والأحساب “. [ فتاوى معاصرة – د. القرضاوي 1/494 ].
وفي حديث أم كلثوم جواز أن يكذب الرجل على زوجته وكذلك المرأة على زوجها، ولكن أهل العلم قيدوا الكذب بأن يكون فيما يتعلق بأمر المعاشرة وحصول الألفة بينهما.
وبهذا يظهر جواز الكذب بين الزوجين إذا كان في ذلك محافظة على الحياة الزوجية ومنع لهدمها، وحفاظاً على بقاء الأسرة، واستمرارية الحياة بشرط ألاّ يترتب على ذلك هروب من واجب أو انتهاك لمحرّم .
والله تعالى أعلم