خُلق تذوق الجمال
تاريخ النشر: 11/11/13 | 9:00الأخلاق من أهم عوامل النهضة والرقي. فلا توجد نهضة بلا أخلاق، ولا نجاح للاقتصاد من دون الأخلاق، ولن تنجح العلاقات الاجتماعية ما لم تكن مغلفة بالأخلاق، ولا يمكن أيضاً رؤية الجمال الكوني من دون الأخلاق، لماذا؟
منذ أعوام عدة، كانت المدن جميلة، وكانت المباني تظهر بصورة جاذبة بكل معانيها، كلها ذوق وجمال، إلى أن قام فرد أو اثنان أو أكثر بمخالفة التراخيص في البناء، وأقاموا عمارات شاهبة تظهر شكلاً عشوائياً في المدن. ولما خالفوا لم تكن البنية التحتية للمكان على استعداد لهذا العدد، فظهرت مشكلة الزحام، وأخلاق الزحام الفاسدة. كل هذا بدأ بالغش وعدم الأمانة. هل رأيت كيف أن غياب الأخلاق أفسد الحياة العامة؟
مثال آخر: البحث العلمي كان قائماً على التعاون بين مجموعة من الأساتذة، ولا يمكن أن ينجح من دون ذلك، حتى بدأت سرقة الأبحاث والأفكار. وفي غياب الملكية الفكرية، زادت السرقة، فاختفى التعاون، وكل عالم من العلماء استقل بنفسه وأخذ يعمل بمفرده، فضاع كل البحث العلمي لافتقاره إلى التعاون بسبب خلق السرقة، بينما في الغرب مازال هذا الخلق مقدساً عندهم، فزاد العلم تألقاً لوجود هذا الخلق.
هل رأيتم كيف أنّ الاخلاق لها علاقة وثيقة بالنهضة والعلم؟ وحتى عندما نتكلم عن خلق مهم، فلابدّ من وجود الأخلاق، حتى تستمتع بما حولك من الطبيعة والمخلوقات، ولابدّ من الأخلاق حتى تتذوق الجمال.
هذا الخلق يساعدك على الإبداع، ويساعدك على العبادة ويساعدك لتعيش سعيداً، ولكي تبدع لابدّ من أن تشعر بالجمال من حولك وتتذوقه. إننا في حاجه إلى تذوق الجمال من حولنا حتى يظهر سلوكنا جميلاً.
وصور الجمال في الكون والحياة دليل على قدرة الله وعظمته وحكمته. والقيم العليا في مبادئ السماء ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية للبشر في كل زمان ومكان. فالخير والفضيلة، والحب والصدق، والعدل والرحمة، والتآخي والبر، والطهر والعفاف، وغير ذلك من الأمور الإيجابية البناءة، التي تملأ القلب بالرضا والسرور، هي في مجموعها جماع السعادة الدنيوية والأخروية، وهي تعبير عن الجمال المعنوي الذي لا حدود له.
والتذوق له بُعدان:
– الأوّل: تذوق حسي بحاسة اللسان.
– والثاني: تذوق معنوي بالعين والأذن، يؤدي لتفاعل النفس بشكل عافي مؤثر مع كل مكونات الكون من حولك، فيظهر هذا التذوق في إنتاجك وفي أسلوبك وفي حياتك.
المشكلة أنّه مثلما أن حاسة التذوق باللسان قد لا يشعر بها الإنسان عندما يأخذ مخدراً في الفم عند طبيب الأسنان، فيفقد القدرة على تذوق الطعام ومعرفته، كذلك التذوق المعنوي للجمال يتعطل عند الإنسان عندما يضيع منه هذا الخلق المهم من حياته، فلا يستطيع رؤية الجمال، فضلاً عن تذوقه.
وقد دعت الآيات القرآنية والنصوص الإسلامية إلى هذا الخلق والسير في الأرض والتفكر في خلق الله، بل وجعل الله تعالى التفكر في الخلق من العبادات التي يثاب عليها العبد ويتقرب بها إلى الله تعالى. قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران191). وتذوق الجمال من أعظم نعم الله، وقد رمز إليها أحد الصالحين بقوله: "إن بين جنبي من اللذة، ما لو علمها الملوك لقاتلوني عليها بالسيوف".
ولهذا، تجد النبي (ص) يحث على التجمل والاعتناء بالبيئة والاعتناء بالمظهر الشخصي، فيقول (ص): "إنّ الله جميل يحب الجمال". إنّه الجمال بكل أشكاله وألوانه وأنواعه: جمال الروح، جمال المظهر، جمال الأخلاق، جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جمال الأسلوب في النصيحة، جمال الذكر، جمال الحياء، جمال غض البصر، جمال الكلام قال (ص): "إنّ من البيان لسحراً"، جمال الصمت (فليقل خيراً أو ليصمت)، جمال التدبر بآيات الله والتفكر.
فحب الجمال عقيدة، لأنّ الله جميل، وهو مصدر جمال الكون، ويحب أن يراك جميلاً ويحب أن يرى منك كل جميل.
والتربية الجمالية في الإسلام هي في كل شيء. القرآن يلفت نظرك إليها. تعال معي نستمع إلى هذه الآيات، واستشعر معي في كل آية منها مذاق الجمال. فكثيراً ما تشهد الآيات القرآنية بروعة وجمال الخلق، كدلالة على وجود الخالق المصور المبدع، ذي القدرة المطلقة والمشيئة النافذة، قال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات 6).
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (الفرقان61).
وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق 6-10)، قال ابن القيم: ومن أسمائه الحسنى "الجميل"، ومن أحق بالجمال ممن خلق كل جمال في الوجود؟ فهو من آثار صنعه، فله جمال الذات وجمال الأوصاف وجمال الأفعال وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها كمال، وأفعاله جميلة.
ولذلك، دعا الرسول (ص) الأُمّة الإسلامية من بعده إلى أن تحرص على الجمال في كل حياتها، فأمر بتحسين الصوت عند تلاوة القرآن. عن البراء رضي الله عنه قال، قال رسول الله (ص): "زيّنوا القرآن بأصواتكم" (رواه النسائي).
والجمال يكون في المبس والهيئة، وذلك أصل حديث (إنّ الله جميل يحب الجمال). قال رسول الله (ص): "لا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". قال رجل: إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: "إنّ الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" (أخرجه مسلم).
بل وجعل التنعم في الآخرة يكون بالجمال ورؤيته وتذوقه في الجنة وجمالها وحسنها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ…) (محمد 15).
وقال تعالى: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (المطففين 22-28).
ويصفها (ص) بقوله: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم" (رواح أحمد).
وقال (ص): "إنّ للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً" (رواه مسلم).
وبعد هذا العرض السريع لهذا الخلق العظيم، ياتي السؤال: كيف أربي نفسي على هذا الخلق وستطيع أن أتذوق الجمال من حولي؟
اجعل عينيك عين نحلة، ولا تجعلها عين ذبابة، بمعنى: اجعل عينيك تقعان على الجمال وتهفوان إليه ولا تقعان على القبح. استخدم حسك الداخلي في رؤية الجمال من حولك والسعي إلى الجمال جزء من الإتقان، والإتقان جزء من الإحسان.
وعليك بعبادة التفكر في خلق الله تعالى، فإنّه يعينك على تذوق الجمال: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد 3).
وحاول أن تنشر الجمال من حولك، في ملبسك وسيارتك وبيتك وفي معاملاتك وفي كل ما يحيط بك.