من سيرتي الذاتية: أقواس أخرى في التعليم
تاريخ النشر: 18/07/16 | 18:00عندما ابتعدت عن التلقين في تدريسي كنت أحاول جهدي أن أسأل الأسئلة لطلابي، أسئلة تهديهم تدريجيًا إلى الجواب، وإلى ما أبتغي توصيله أو تعليمه، فيشعر الطالب أنه هو الذي اكتشف الدلالة، واهتدى إلى المعرفة، فيستمتع هو، وأرضى أنا.
وكنت قدمت دروسًا نموذجية كثيرة للمعلمين في استكمالاتهم، وأصبح الموضوع لديّ هواية، فقدمت مثلاً – في ثلاث حصص متوالية تحليلاً أدبيًا لسورة الضحى، وتبين لطلابي – المعلمين- وبتوجيهي بلاغة هذه السورة ومدى خدمة الشكل لمضمونها، فوصل التذوق درجة إلى أن معلمًا مسيحيًا قال لي مداعبًا:
ثمة “خطر” إن علمتنا سورتين أخريين أن ….
سأقدّم هنا نموذجًا من تحليل بيت من الشعر:
مطلع قصيدة الخنساء:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا *** وأذكره لكل غروب شمس
كانت أسئلتي بالتدرج:
متى كانت الخنساء تذكر أخاها؟
ما الفرق بين (يذَكّرني) و (أذْكره)؟ وعلى ماذا دلّ كل فعل؟
من الطبيعي أنها تذكر أخاها صخرًا في كل يومها، ولكن لماذا خصصت طلوع الشمس، وغروبها؟
لماذا ذكرت الشمس دون القمر أو الكواكب الأخرى؟
قد يجد الطالب صعوبة في الإجابة، لكني كنت أفرّع السؤال، فمثلاً:
طلوع الشمس يذكّرها أخاها في الصباح؟ لماذا؟
ماذا يمكن أن يكون من عادة الأعرابي أن يفعل في الصباح؟
سيجيب الطلاب: أنه يستعد للخروج،
لأي هدف؟
– إما للغارة أو الصيد.
لتأكيد السؤال أسأل:
لماذا تذْكُره إذن في هذا الوقت؟
لماذا لم يخرج صخر وقت تذكّرها للغارة؟
ما هو رد فعلها إذن؟ وما هو شعورها عند التذكر؟
بعد معرفة سبب تذكرأخيها في الصباح سيسهل أكثر معرفة سبب التذكر مساء.
ما الذي يجري عادة في المساء في حياة الأعرابي؟
عودته،
ولكن ما هو المتوقع من رجل له مكانته أن يقوم به ليلاً في ظروف البادية؟
سيصل الطالب بعد مساعدة يسيرة إلى-
إكرام الضيوف؟
إذن ما هي صفته التي تلمح الشاعرة بها؟
كيف تشعر بعد فقدان من يقوم بذلك؟
هكذا يقرأ الطالب البيت ويعرف أبعاده، فلا يقرأ القراءة السطحية، ولا يكتفي بأن نقول له “هنا طباق”، بل يدرك معنى التخصيص الذي عمدت إليه الشاعرة في نهاية القصيدة:
وما يبكون مثل أخي ولكن ….. أعزّي النفس عنه بالتأسّـي
ويعرف الطالب مدى الفاجعة التي مُنيت بها الشاعرة، ومدى الصدق الذي عبرت عنه.
* من الجميل أن يقرأ الطالب البيت بمدّ حروف المد (التجانس الصوتي= assonance) وبنبرة الحزن!
أسأل للتلخيص: ما هو شعورها؟
ولماذا هي حزينة؟
كيف تتجلى مظاهر الحزن في أبيات القصيدة الأخرى؟
هنا تتبين لنا صفات صخر التي ألمعت إليها، فهو البطل الذي يخرج للغارة على الأعداء- وهذا هو المعنى الغالب، (أو الكريم الذي يخرج للصيد ليقري ضيوفه)، حتى إذا حل المساء لجأ إليه الضيوف فهو العنوان الذي يَـقْريهم. … هوعنوان الشجاعة والكرم، وتفننت الشاعرة في التدليل على وصفه بفن “الإشارة” البلاغي، فهي لم تقل المعنى مباشرة، بل أوحت به.
وأخيرًا:
في تصفحي مؤخرًا في كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) للأبشيهي (ت. 1448 م) عثرتُ على ما يشفع لي، ويزكّي تصوري، وأرجو من قارئي ومني أن نصدّق أنني علمت النص قبل سنين، ولم أكن قد اطلعت على هذه المادة البتة.
يقول الأبْشيهي:
“سئل الأصمعي عن قول الخنساء في نعيها صخر (الصواب- صخرًا) حين مات، وقالت:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا *** وأذكره لكل غروب شمس
فقالوا له: لم خصّت الشمس؟ فقال:
لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشنّ الغارات، وعند غروبها يجلس مع الضِيفان، فذكرته بهذا مدحًا لأنه كان يغير على أعدائه، ويتقيد بضيفه”.
الأبْشيهي: المستَطْرَف في كل فن مستظرَف (طباعة شركة القدس)، ص 665.
د. فاروق مواسي