إغتيال مدفون
تاريخ النشر: 19/07/16 | 16:20فوجئت أمس بزيارة لم أكن أتوقعها..
جاءت لتعيدني الى ما قبل ثلاثة عقود أو يزيد..
جلس أمامي شيخ عجوز، لم تترك السنون الطوال قطعة من جسمه المحروق،ألا وحفرت عليه آثاراً عميقة، تحكي تقلباتها الثقيلة.
نظرت الى وجهه، دخلت الى عينيه الصغيرتين اللتين كانتا تغوصان في تيه مقهور، لأتذكر أن كنت قد جمعني به الزمان مرة فلم أجد، فسكتُ منتظراَ، على أحر من الجمر، أن يسعفني ” ببلة ريق”،تخرجني من غرقي،في بئر أنتظار جمر حيرتي.
-أتذكر- يا أستاذ – طالبك علي سعيد السعداوي..؟ قال وهو يتأهب ليغرف بعينيه الخجلتين،كل التعابير التي ستظهر على صفحات وجهي، وفي فضاء عيني، والكلمات التي ينتظر خروجها من من بين شفتي.
فغبت عنه تائها ” أنبش ” في متاهات ذاكرتي..
-علي سعيد.. ! آه..آه..! علي ” تاجر الحمير”.. !! سعيد أبنك – ابن صفي – ألذي أطلق النار على أثنين من حرس الحدود..!؟
همهمت،وأنا أحاول انتشال قصته،من بعد أن” مسكتها ”
من بين الصور المخزونة عميقاً في ذاكرتي..
-اه.. آه..هو يا أستاذ..! أخرج الرجل الجالس أمامي كلمات، كانت مخنوقة في داخله، تنتظر الأنطلاق من معقلها المخنوق.
-ولكن حسب معلوماتي،هو ما زال في السجن.!
-نعم يا أستاذ، سيخرج قريباَ..! أجاب الأب،أجابة الواثق بما يقول.
كان ذلك في أواخر سنته الدراسية.. كان سعيد في الصف التاسع الأعدادي.. كلف مدير المدرسة احد المعلمين أن يحل مكاني في الصف، والحضور الى غرفته لأنه يريد أن يتحدث معي في أمر هام جدا، وقبل أن أجلس أمامه صرخ بي:
-مصيبة.. !! مصيبة يا أستاذ..!! صرخ كمن خربت عليه الدنيا.
-ماذا !..ماذا حدث..!؟
-طالبك سعيد معتقل.. !! أعتقله البوليس..!! ويطلب من المدير أو ما ينوب عنه،الحضور الى مركز الشرطة،لأستلامه وكفالته.!
-لماذا..!!؟
-تارك المدرسة.. ويتاجر بالحمير..!! ومعتدي على البوليس..!!
” طرت ” الى مركز الشرطة، واستلمته.. بعد أن كالوا لي ولمدرستنا ألواناً من “البهدلة”، والتهديد باللجوء الى وزارة التعليم.
وضعته في سيارتي، وأسرعت به الى المدرسة،
وجلستُ معه في غرفة مغلقة، وحاولتُ بكل الطرق، أن أعرف منه ما الذي حدث معه.. ولكن دون جدوى..وذهبتْ محاولات المدير معه أدراج الرياح.. أستدعينا والده، هذا الذي يجلس أمامي متجمداً لا يتحرك فيه ألا عينيه،منتظرا العودة أليه من شرودي الذي طال، فوجد أمامه صخرة صماء،لم يستطع ان يخرج منه جملة تسعفه.
حاولت أن أُلملم معلومات عنه عن طريق أصدقائه، فلم أعرف،ألا أنه كان يجوب في البراري،التي تقع بين بلدة عنين في الضفة ومدينة أم الفحم،” يلتقط ” منها الحمير “السايبة “، ويحضرها ليبيعها في بلده،ثم “تطوّرت”تجارته، حتى أصبح يشتريها من أهالي عنين، ويبيعها بربح “وفير” في أم الفحم والقرى المجاورة.
وأنهى سعيد تعليمه في مدرستنا،قبل نهاية السنة الدراسية بشهرين، ولم يحضر لأستلام شهادة الأنهاء،وغاب وغابت عني أخباره.
الى أن جاء يوم..
فتحتُ مذياع سيارتي،لأستمع الى نشرة الأخبار.. فأذا بخبر يتصدر النشرة،ينزل علي كالصاعقة، فيصيبني بذهول مصعوق : ” شاب يطلق النار على جنديين، فيقتل أحدهم، ويصاب الآخر بجروح خطيرة.!”.
وتضيف المذيعة :” أن أسم الشاب،علي سعيد السعداوي، من مدينة أم الفحم..!”.
” فَأسكتُ ” المذياع وتهتُ في ضياع محموم..
وعلمتُ بعد الحادثة بأشهر،أنه حُكم عليه بالسجن لمدى الحياة.
وها هو أباه يجلس أمامي،جاء ليعيدني الى صفحة، تأبى أن تطوى من أمامي.
*************
“هذا المغلف أرسله معي أليك، أبني علي،في زيارتي الأخيرة له في سجن نفحة،وطلب مني أن أسلمه لك مغلقا كما هو.! ”
قال مستغلاً أول ” أستيقاذ ” لي من شرودي،الذي أضناه.
قام من مكانه، وتركني مع المغلف، وفرَّ من أمامي..
فأسرعتُ كالبرق الى فتح المغلف و”فردتُ” ورقة كانت بداخله، على الطاولة أمامي،وبدأت أقرأ سطورها :
*******************
” استاذي..
لم تكن في البرِّ عندما باغتتنا مجموعة من حرس الحدود..كنتُ بصحبة شاب من عنين، أفاوضه على شراء حمار منه،طلبوا منا أبراز هوياتنا، فأجبتهم أنني في عمر لا تعطى له هوية،فتركوني وتوجهو أليه، فقال لهم أنه لا يحملها، وأنه تركها في بيته في قريته عنين،التي لا تبعد عن هنا سوى مئتي متر، وبيوتها تظهر من هنا،وأنهم يستطيعون مرافقته الى هناك، والتؤكد من حيازته على هوية.
ولكن كلَّ هذا لم يشفع له.. قيدوه برجليه ويديه، وتناوبوا على التفنن،في كيل الضربات له،أسالوا الدماء،من أماكن كثيرة في جسمه، شتموا أمه، شعبه، ودينه، وخالقه، بكلمات مقذعة، فتشوا في جيوبه،فوجدوا فيها كتاب القرآن، فأطاحوا به بالأرض وهم يلعنون خالقه،وبعد أن ” تعبوا ” تركوه مغميا عليه،وغادروا المكان وهم يحملون تفاصيل هويتي وعنواني وأسم مدرستي.
فركبت الحمار،وأسرعت كالبرق الى عنين،واستصرخت كل من وجدته، في أول بيوت وصلتها، فهرعوا لأنقاذ الشاب.. ولكن عندما وصلوا، كان قد فات الأوان.. وجدناه ميتا يتخبط في دمه..!!”
ويبدو أن أخبار موت الشاب قد وصلتهم،ففي المساء حضروا الى البلد،واقتحموا بيتنا،وقادوني الى مركز الشرطة،وأدخلوني الى غرفة مظلمة مخيفة، “وصبوا” على رأسي أكيالاً من الوعيد والتهديد،محذرين من مغبة أخبار،أي كان عما حدث مع الشاب العنيني، ولخص أحدهم الموضوع بقوله : ” أنت أخرس، أطرش.ما سمعتْ ولا رأيتْ.. !!” صرخ بي هامساَ وهو يشير الى عينيه وأذنيه.
“وأن غلطت وقلت، سندَّعي أنك أنت ألذي قتلتَ الشاب..! ” أكمل آخر ووجهه يندف سماً.
قرأتُ كل هذا في رسالة سعيد.. !!
وبكيتُ دماً..!
يوسف جمّال – عرعرة