جولة أدبية(7)
تاريخ النشر: 24/07/16 | 9:51كان المتنبي يتذمر من لوم الجاهل المستغرق في جهله، وكذلك مِن مخاطبة مَن لا يفهم، فقال:
ومن البليّةِ عذلُ من لا يرعَوي *** عن جهله وخطاب من لا يفهمُ
إزاء ذلك نجد من يجيب الجاهلَ ساخرًا أو رادعًا من خلال ألم داخلي يشعره بسبب هذا الجاهل أو ذاك.
من نماذج ذلك ما ذكرتني به ب. مي يوسف ابنة الطيبة من قصة طريفة هي:
سأل رجلٌ أحدَ علماءِ اللغة:
ما الكموج؟
فقال له: أين قرأتَها؟
قال الرجلُ: في قولِ امرىء القيس: “وليلٍ كموج البحر…..”
فردَّ عليه العالمُ: “الكموجُ” دابةٌ تقرأ ولا تفهم!!!!
هكذا شفى العالم بعضًا من غليله (وبالدارجة: “فش غله”).
لم يعرف من هو المعلم؟
حدث سلام بن يزيد أنه وفد إلى الجاحظ ليأخذ العلم على يديه:
“فانحدرت إليه وسألت عن منزله في البصرة، فأرشِدت ودخلت إليه، فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبيًا ليس فيهم لحية غيره، فدهشت فقلت : أيكم أبو عثمان؟
فرفع يده وحركها في وجهي وقال: من أين؟
من الأندلس.
– ما جئت تطلب ؟
قلت : العلم.
قال : ارجع فإنك لا تفلح…ترى حولي عشرين صبيًا ليس فيهم ذو لحية غيري،
أما كان يجب أن تعرفني بها !!؟”
آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه
من القصص المعبّرة أن أبا حنيفة النعمان أحد أصحاب المذاهب السنية الأربعة كان يشكو من ألم في رجليه لا يُخفف عنه إلا إذا مدّهما، ولم يكن يفعل ذلك أمام الضيوف أدبًا.
جاء إلى المجلس رجل عليه أمارات الوقار والحشمة. فقد كان يلبس ملابس بيضاء نظيفة، وكان ذا لحية كثة عظيمة، فجلس بين تلامذة الإمام. فما كان من أبي حنيفة إلا أن عقص رجليه إلى الخلف، ثم طواهما، وتربع تربع الأديب الجليل أمام ذلك الشيخ الوقور، وقد كان يعطي درسًا عن دخول وقت صلاة الفجر.
قال الضيف لأبي حنيفة دون سابق استئذان:
يا أبا حنيفة: إني سائلك فأجبني. فشعر أبو حنيفة أنه أمام مسؤول رباني ذي علم واسع واطلاع عظيم فقال له: تفضل واسأل!
فقال الرجل: أجبني إن كنت عالما يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يفطر الصائم؟
ظن أبا حنيفة أن السؤال فيه مكيدة معينة أو نكتة عميقة لا يدركها علم أبي حنيفة.
فأجابه على حذر: يفطر إذا غربت الشمس.
فقال الرجل بعد إجابة أبي حنيفة ووجهه ينطق بالجدِّ والحزم والعجلة وكأنه وجد على أبي حنيفة حجة بالغة وممسكًا محرجًا:
وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يُفطر الصائم؟!!!
بعد أن تكشّف الأمر وظهر ما في الصدور، وبان ما وراء اللباس الوقور، قال أبو حنيفة قولته المشهورة:
“آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه”.
قصص الغباء لا تنتهي، فإليكم قصة الشاعر العتّابي الذي عاش في عصر المأمون:
الشاعر والبقر
كان الشاعر العتّابي يسير داخل أحد أسواق بغداد، وكان يأكل بعض الطعام وهو يمشي على رجليه، وكان هذا الفعل يخالف المروءة ويخالف عادة الناس، خاصّة عند الطبقة العليا من القوم. . …
قابله صديقه وأنكر عليه ذلك قائلا:
“أتأكل الطعام في السّوق ويراك الناس؟!”…
ردّ عليه العتابي مستهزئًا بقوله:
“وهل هؤلاء ناس ؟… إنّهم بقر!!”.
قال الصديق: “كيف تقول عن الناس إنّهم بقر؟”
قال العتابي: “سأريك إن كانوا أناسًا أم بقرًا”…
صعد العتابي إلى ربوة مرتفعة ونادى في الناس:
“يا قوم! هلمّوا أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”!
تدافع إليه الناس واجتمعوا حوله، وأقبل يحدّثهم ويقول:
“روى فلان عن فلان عن فلان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال…”، وظل يخرج من حديث إلى آخر، وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين، إذا حرّك يده يمينا تحرّكت رؤوسهم يمينًا، وإذا أومأ برأسه يسارًا التفتوا يسارًا، إلى أن قال لهم:
“وهناك حديث آخر يقول بأنه صلى الله عليه وسلم قال:
إذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه، دخل الجنة”، وسكت…
فإذا بكلّ واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به إلى أرنبة أنفه (مثلما يفعل البقر)، وكان مشهدًا مضحكا، فالتفت العتابي إلى صديقه ساخرا وقال:
ألم أقل لك انهم بقر!!؟؟
وعلى ذكر البقر، فالبحتري الشاعر رأى أن هناك البلادة الشديدة بين الناس، ومَن هم ذوو وسَن (نعاس) وجهَلة، لا بد من أن يحركهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وبعد ذلك فلا يهمه إن فهمت البقر شعره أم لا، فقال:
أهزُّ بالشعر أقوامًا ذوي وسنٍ *** في الجهل لو ضُربوا بالسيف ما شعروا
عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعها *** وما عليَّ إذا لم تفهمِ البقرُ
قبل ذلك كان أستاذه أبو تمام قد أجاب ابن العـمَيثَـل الذي سأله:
لم تقول ما لا يُفهم؟
أجاب:
لم لا تفهم ما يُقال؟
القصص كثيرة في هذا الباب، لكني أحببت أن أختم بقصة استغربها الخليل بن أحمد، وقد جرت معه.
كان الخليل يعلّم العروض، فحضر أحدهم ليتلقى العلم على يديه، فصعب عليه تعلمه، فقال له الخليل يومًا بعد أن أيقن استحالة تعلّمه:
من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه … وجاوزه إلى ما تستطيع
خرج الرجل من عند الخليل بهدوء.
قال الخليل: أكثر ما أدهشني أن الرجل فطن إلى قصدي مع أنه عسير الفهم.
(ترد هذه الرواية بصور مختلفة).
ب.فاروق مواسي