ذاكرة اللّوز
تاريخ النشر: 28/07/16 | 19:23“لا حبّ يجعلُكَ سعيدا، سوى ذاكَ الّذي تقتُلُ بهِ المرأة كلّ الرّجالِ قبلك، وبعدكَ. ذاكَ الحبُّ الّذي يمحو بِهِ الرّجل كلّ نساء الأرضِ، وتكونينَ المَلِكة”، (يامن نوباني)
منذ تعرّفتُ إليه في قريتهِ المفتوحة على شجر اللّوز، وأنا أجمّع حبري ورصاصي كي أرسم شكلا لطيبتِهِ، وقلبا لخَجَلِه، يامن نوباني، صاحب “ذاكرة اللّوز″.
والحقيقة تعترفُ، أنّه لا توجد ذاكرات كثيرة تستحقّ أن نتوقّف عندها، ونسأل، لكن ثمّة ذاكرة عذبة تأخذ عُذوبَتَنا من عسلِهَا إلى صُوَرٍ لم نتوقّع وجودها، فتصطادنا بملقط الدّهشة. كثيرة هي النّصوص الّتي يخربِشونَها كلّ يوم، وقليلة تلك الّتي تستحقّ أن نضعها فوق وسادة أو على رفّ سرير أو مكتب كي نقرأها، وأجملها تلك الّتي نضطر لقراءتها كاملة حين نستيقظ أو نذهب إلى النّوم، فلا مكان آخر يناسبها غير الشّراشفِ المغسولة بعنايةِ لهفة، كنصوص يامن نوباني هذه في ذاكرته.
ولعلّ الغريب في هذه الأوراق اللّوزيّة أنّني كنتُ أرى جدّته لطيفة، الّتي وصلتُ إلى اللّبن الشّرقيّة خصّيصاً لرؤيتِها ولقائه، بمثل ما أرى العشيقات الوهميّات اللّواتي يسجّل أصواتهنّ المعجونة برائحة الشّوق بذات الوُضوحِ أو الغبش. والأغرب أنّ تلقائيّتهُ غزيرة في طزاجتها، وهامشيّتها معا، وربّما لأجل ذلك، ولأجل ذلك فقط تستولي عليك بكَسَلها الجميل. كسل ينكسر فور تفاجئكَ صور نساء منسيّات. تستخرجهنّ من كلّ مكان، من الجواريرِ، والقوارير، عن الرّفوف، من الغيمِ، من القلبِ، من ملابسِكِ المعلّقة على حبل الغسيل، ومن جيوب السّتُراتِ، وجيوب بنطالكِ الممزّعِ بأنواع حبّ لا تخطر لكَ على بال.
أدهشني أن يأتي الحبّ يصطحبُ مدُنَهُ ونساءه معا. ويكتب هذا الكمّ من الرّسائل. أعرف أنّ يامن نوباني قد قرأ روايتي “امرأة الرّسالة” وربّما تأثّر بحيفاها ورسائلها كثيرا، لكنّ الجميل في هذا التأثّر أنّه استطاع أن يفلتَ من إِسارِ التّقليد، فأنشأ لنفسهِ رسائلَهُ الخاصّة، ولغتها السّلسة. وقد يكون سبب تلبيتي لدعوتهِ إلى ريفِ لوزه. لقد فهمتُ أنّي أقف أمام موهبة حقيقيّة، والمواهب نادرة عندنا، حدّ أنّنا لا نستطيع عدّها على أصابع اليد الواحدة.
لن تشبه مقالتي هذه في يامن نوباني سواها من الكتابات، لأنّها ستخلطُ الأدب بغير الأدب شأن ذاكرة لوزِهِ تماماً، وسوف تجعل من حديثي معه مادّة دسمة لإدانة، غنيّة بمدلولاتها، ونادرا ما أفعل، ذلكَ لأنّه لا يحبّ أن يَكتبَ كالجميع، ولا أن يُقرأ كالجميعِ أيضا، ولذلك ينتقي من المضامين، تلك الّتي عشّشت في أماكن سريّة من ملابسنا ويكتبها، كأوّل مرّة كتب فيها رجلٌ عن الحياة أو العشق. عشقٌ يؤلِمُ الأكتافَ وما بين العينين. هذا النّوع النّادر من الألم العاشق لا طبَّ له ولا شفاء سوى المزيد من الكتابة، والمزيد من تلوين الورق، تماما كما حدث لفان جوخ في رسوماته اللّانهائيّة بالأصفر، محاولا أن يتخلّص من قِصّةِ عشقٍ فاشلة، لازمتهُ عرضَ حياتِهِ وطولِها، ولم ينجح. لم ينجح رغم أنّه لوّن العالم بأصفره، ولم يبرأ لم يبرأ إلا بالموت!
تركَ فان جوخ قلقَهُ وجُبنَهُ، قلبهُ وروحهُ، تساؤلاتهِ وشتائمهُ المقذعة بحقّ نفسهِ في رسالتِهِ الأخيرةِ لأخيهِ ثيو. لم يأخذ غير أجزائِه الفانية. أسوقُ نموذج فان جوخ لأفسّرَ لماذا نحتاجُ أن يتكرَّرَ فِي الكلمةِ وعَلَى ورق من نوع آخر، لنجرّبَ مذاقاتٍ أُخرَى لنشلِ الأبديّةِ من هزائِمِها. وكتابات يامن رغم أنّها تقنعنا بهزائمها العلنيّة، غير أنّها تفاجئنا بانتصارات مربِكة في نصوص لاحقة تدركمت بها نظراتنا، ونحنُ نبحثُ عن كلمَةِ عزاء! لا عزّاء نقدّمهُ لورقِهِ، بل المزيد من الغيرة والملاحقة، لسلاستها، ودفء مفرداتها، وبُخلِ ما تُفصِح عنهُ من حقائق ومشاعر. بخلٌ نادر يستفزّ القارىء حين يلاحق أبعاده ويجدُهُ ملفّعا بكلمة مدفونة بلوعة مُلفّعة بصمتها. وأنت تسأل نفسك كيف تحتملُ الكلمات كلّ هذا الصّمت، وكيف لا يعلنُ القلبُ استقالتهُ من ورقهِ. أسئلة كثيرة تطرح في هذا السيّاق تتعلّق بفنيّة بناء الكلمة، فالكلمة عندهُ بقدر تلقائيّتها، يبنيها بعناية ومتابعة شديدتين
ما يعيدُ دولاب الذّاكرة
في العادة، لا أقرأ مقدّمات الكتب ولا أحبّها، لكنّي هنا وجدتُ نفسي على بساط ريح. استظرفتُ فكرة أن أقرأ ما كُتِبَ حول كتاب لا أعرفه. ليس رِواية ولا قصّة، بل متاهة، متاهة تشبه صخب دولاب طائرة الهيليكوبتر الّتي طاردت نصوص يامن ورأسه الّتي تكتب. مباشرة تذكّرت طائرة الهيليكوبتر الّتي لاحقت رأسي الصّغيرة مساء يوم الأرض، واعتقدت لسبب لم أفهمهُ أنّها تنوي قتلي. هذا التّزاحم بين طائرتين قرّب النّصوص إلى روحي. كنّا ملاحقين من ذات الدّوار، أنا وهوَ، يا لعجيب الصّدف.
العادي الصّادم!
يكتب مضامين تشبِهُهُ جدا، وتحبُهُ جداًّ، ذلك لأنّه يتقاسمُ معها الحنين. يكتبان معا ويستفيقان معا على امرأة جاءت من آخر العالم لتعثر على رجل هامشي يجلس في مقهى ويخربشُ حنينا لا يقوى عليه الورق، لذلك يستعين بكلام النّساء، النّساء اللّواتي يجيدُ الحديثُ عن همسِهِنَّ الفالتِ بمثلِ ما يجيدُ الحديث عن أصابعَ طفلٍ فلتت من أثرِ اصطدامها بقذيفة جندي أحبّ أن يتسلّى. هذا العادي الصّادم فيما يكتبهُ يامن سرّ جماليّتهِ، وهل نريد أكثر من جماليّات الرّوح تكتسحُ المخيّلة من رُكبَتِها حتّى كَعبِها؟
والغريب أنّك تقرأهُ وأنت تأكل وتشرب وتسافر، وتصنعُ الفطائرَ، وتُعِدُّ القهوة بذاتِ المذاق. يقظا وحالما معا. وأعزو كلّ ذلك لعاداتِهِ، الّتي تقودهُ إلى الكتابة. فكلّ هذا الحضور الّذي يُفرّض فرضا ليس محض صدفة، ولكن محض رِقّة خرجت عن الطّوق. شخصيّا أعشقُ النّص الّذي يفرضُ حضوره، وأغيرُ مِنْهُ بمثلِ ما أحتفي بهِ. وهنيئا للوطن المأخوذ من حيفا، الّتي رسمها في سجنِهِ كأجمل منفى للشّوق. إنّه يكتب حيفا عبر قضبان غرفته، وانهيار المطر كأجمل بكاءات القلب، “على نافذة الغرفة ثمانية من قسم واحد في معتقل مجدو، وفي الخيمة ثلاثة من قسم ستّة في مُعتَقَل عوفر”، (ذاكرة اللّوز)
لعلّها ملاحظتي الأخيرة في مشروعِ لوزه. كنتُ مع الإبقاء على النّسخة الأولى لذاكرة اللّوز مضمونا وإخراجا، وصادرة عن جهة واحدة هي يامن نوباني ذاته. لم أؤيّد فكرة تبنّيها من قبل دور نشر أخرى داخل وخارج فلسطين، وباعتقادي مذاقها البريّ أفرزتهُ حياديّتها المطلقة ورفضها بداية من جميع الّذين لهثوا خلف صيتها، لاحقاً، لإعادةِ طبعاتها. حدث بعد أن راجت، وملأت عقول الجيل الشّاب خصوصا، المؤيّد والدّاعم لها. من هذا المكان ربّما أخطأ صاحب اللّوز في طرحِ مشروعِهِ مَشاعاً لكلّ من أراد. من أحبّ مجموعة النّصوص هذه أحبّ أسلوب استفزازها للكبّار، ومذاقها الخاص تحتّ ضرسِ الصّغار، لذلك، ولذلك فقط هي ذاكرة، وبنت اللّوز, خذوها بطبعتها الأولى فقط، ستجدون رائحة جدّته لطيفة على مدخل أوّل نصّ هناااك!
رجاء بكريّة