من سيرتي ومن دروس السلف: التجاهل للإيجاب
تاريخ النشر: 29/07/16 | 13:45توجه إلي معلم صديق أن أبدي رأيي بتحليل قصيدة من الشعر الحديث قام بها.
قدمها لي بنوع من الاعتزاز، فتقبلتها بنوع من الغبطة والرضا.
قرأت، وسرعان ما تبين لي أن المادة هي لي، وكنت قد نشرتها في أحد المواقع.
كان المعلم يراقبني وينتظر تقريظي وملاحظاتي.
احترت في الأمر، وقلت في نفسي:
لو كشفت له الأمر فإنني أكون قد خزيته، فهو سيستاء، وهو صديق، وأنا لن أفيد شيئًا.
خطر على بالي أن أقول له: كنت نشرت تحليلاً قريبًا من تحليلك في الموقع الفلاني، فتراجعت، لأنه سرعان ما يكتشف فعلته.
خطر على بالي أن أطلب منه ألا ينشر المادة خوفًا من فضيحة محرك “غوغل”، لكني تراجعت، فبماذا أجيبه إن سأل “ولمَ؟”؟
وأخيرًا قر قراري أن أتنازل عن المادة، وكأنها ليست لي، فأثنيت عليه أيما ثناء، ورجوته ألا يسرع في نشرها، وأن يتصل بي إذا أصرّ على النشر لنراجع المادة معًا.
ابتسم الرجل، وشكرني على تشجيعي إياه، ولم ينس أن يمتدح نشاطي في خدمة اللغة وأدبها.
سأسمّي هذا السلوك “التجاهل للإيجاب”.
أتجاهل أمرًا معيّنًا، لكن الهدف في هذا التجاهل- الخير للآخر وعدم إحراجه أو إيذائه.
حكايات من التراث:
سأنقلكم إلى لطائف من تاريخنا فيها هذا “التجاهل للإيجاب”:
• كان معاوية بن أبي سفيان في خيمة، فسمع رجلاً يسبّه، فخرج معاوية وقال له:
– يا هذا، اذهب بعيدًا لئلا يسمعك أمير المؤمنين معاوية، فهو قريب منا هنا!
لمعاوية قصة أخرى تدل على هذا “التجاهل للإيجاب”، فقد تغزّل عبد الرحمن بن حسان بابنة معاوية- رَملة، فتجاهل الخليفة الأمر رغم صعوبته عليه.
ثم إنه استدعاه، واستقبله بحفاوة، وقال له:
“ابنتي الأخرى عاتبة عليك”
– في أي شيء يا أمير المؤمنين؟
– في مدحك أختها وتركك إياها.
– لها العُتبى والكرامة!
لم يكن لمعاوية ابنة غير (رملة)، لذا فكان الغزل الجديد كأنه تكذيب للغزل في رملة، فالناس يعرفون أنه ليس له سواها.
ترى لو عاقبه لكثر الكلام فيه وفي رملة، لكنه عالج الموضوع بتجاهل ذلك التغزل بابنته والإساءة لعرضها، فأظهر الشاعر بأنه كاذب.
• قرأت أن حاتمًا الأصمّ (من علماء خراسان، وكان زاهدًا ت. 852 هـ)
لُـقِّب “الأصمّ” لأن امرأة جاءت إليه لتسأله مسألة فقهية،
فحدث أن المرأة لم تتمالك نفسها، وهي واقفة أمامه ينصت لها، فأخرجت صوتًا، فسرعان ما تدارك الشيخ الأمر، وتصامم،
فوجّه إليها السؤال بصوت مرتفع جدًا وسألها: ماذا سألت؟؟ فلم أسمع.
أعيدي رحمك الله!
وهكذا حفظ للمرأة ماء وجهها، وبقي لقب “الأصمّ” ملازمًا له.
فأي خلق هذا؟
ما دمنا نتحدث عن حاتم الأصمّ، فإليكم قصته مع أحمد بن حنبل (صاحب المذهب الحنبلي السنّي) ، فقد سأل ابن حنبل:
أخبرني يا حاتم كيف التخلص إلى السلامة من الناس؟
قال حاتم: بثلاثة أشياء.
– وما هي؟
– لا تعطهم مالك ولا تأخذ من مالهم،
وتقضي حاجتهم ولا تطالبهم بقضاء حقوقك،
وتصبر على أذاهم ولا تؤذيهم.
– هذه صعبة؟
قال حاتم: وليتك تسلم!
في إجابته “ليتك تسلم” إيحاء بأنه يكثر من “التجاهل للإيجاب”.
هل تعرفون ما نقوله بالدارجة: “مَـرِّق”!
إذا كنتم – أعزائي- تعرفون قصصًا من التراث فيها هذا “التجاهل للإيجاب” فأرجو إضافتها في تعليقاتكم!
ب.فاروق مواسي