البصر ولذة العبادة
تاريخ النشر: 18/01/17 | 6:24الحمدُ للهِ الذي يَعلمُ ما تُخفي القُلوبُ والخواطرُ، ويَرى خَائنةَ الأحداقِ والنَّواظرِ، المطَّلعِ على خَفيَّاتِ السَّرائرِ، العالمِ بمكنوناتِ الضَّمائرِ، المُستغني في تَدبيرِ الكونِ عن المُشَاوِرِ والمُؤازرِ.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له مُقلِّبُ القُلوبِ، وغَفَّارُ الذُّنوبِ، وسَاترُ العُيوبُ، ومُفرِّجُ الكُروبِ.. وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه سَيِّدَ المُرسلينَ، وجامعَ شَملِ الدِّينِ، وقَاطعَ دابرِ المُلحدينَ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آلِه الطَّيبينَ الطَّاهرينَ.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]..
أما بعد:
عندما تأتيكَ القِصَّةُ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. فإنها من القّصصِ الحقِّ.. لأنَّ اللهَ -تعالى- قالَ عنه: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3- 4].. فأرعِ لها سمعَكَ.. وافتحْ لها بصرَكَ.. ففيها المُتعةُ والفائدةُ.. وفيها من العلومِ فرائدُه.. فتعالوا لقِصَّةٍ من قَصصِ بني إسرائيلَ العُجابِ.. فَلَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: “لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: وَذَكَرَ مِنْهُمْ صَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي – أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي -، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى ينْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ (أَيْ: الزَّانِيَاتِ)
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟، قَالُوا زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، وَيَقُولُونَ: مُرَاءٍ تُخَادِع النَّاسَ بِعَمَلِكَ، قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَيْحك يَا جُرَيْج، كُنَّا نَرَاكَ خَيْرَ النَّاسِ، فَأَحْبَلْتَ هَذِهِ، اِذْهَبُوا بِهِ فَاصْلُبُوهُ..
فَلَمَّا مَرُّوا بِهِ نَحْوَ بَيْتِ الزَّوَانِي خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لَمْ يَضْحَك، حَتَّى مَرَّ بِالزَّوَانِي، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ؟، قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ، يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ فِي صَوْمَعَته، فَقَالُوا لَهُ: بِاللَّهِ مِمَّ ضَحِكْتَ؟، فَقَالَ: مَا ضَحِكْتُ إِلَّا مِنْ دَعْوَةٍ دَعَتْهَا عَلَيَّ أُمِّي”.
لا إلهَ إلا اللهُ.. بحرٌ من العلومِ والفوائدِ.. تُستخرجُ به دُررُ القلائدِ.. ولكن تعالوا نتحدثُ عن فائدةٍ عَظيمةٍ واحدةٍ:
ألا وهو قولُ أمِّ جُريجٍ: “اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ”.. فما هو السِّرُ خلفَ هذا الدُّعاءِ؟!
أيُّها الأحبَّةُ..
حبُّ الأمِّ لولدِها مما يُضربُ بهِ الأمثالُ.. ولكن قد يُؤدي هذا الحبُّ في كثيرٍ من الأحيانِ إلى الغَيرةِ.. فالأمُّ تغارُ من كلِّ شيءٍ يصرفُ ولدَها عنها.. فيظهرُ عليها ذلكَ أحياناً ويخفى منها كثيراً.. تُخفيه مراعاةً لمشاعرِ الولدِ مع الآلامِ والجِراحِ.. وإظهاراً له أنَّها تُحبُّ ما يجلبُ له السَّعَادةَ والأفراحَ.. فسعادتُه هو بالغُ مُناها.. ومنتهى رِضاها.. والعاقلُ هو الذي يجعلُ أمَّه لا تغارُ من شيءٍ أبداً.. بل يُظهرُ لها أنَّها الأغلى دوماً وأبداً.. وأنَّه لا يُقدِّمُ عليها أهلاً ولا مالاً ولا ولداً.
ولذلك أخطأَ جريجٌ -رحمَه اللهُ تعالى- في عدمِ إجابتِه أمَّه والإقبالِ على صلاتِه النَّافلةِ.. مرةً واثنتينِ وثلاثاً.. ولا عجبَ في ذلكَ؛ فقد وجدَ في الصَّلاةِ لذَّةَ العبادةِ وقُرَّةَ العينِ.. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ”.. بل هي رَاحةُ الصَّالحينَ من همومِ الدُّنيا وغمومِها.. قَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: “لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ؛ أَرِحْنَا بِهَا”.
ولكنَّ الأمَّ احترقَ قلبُها شوقاً لولدِها.. وشَعَرتْ بالغَيرةِ حتى من الصَّلاةِ.. فعلمتْ أن تلكَ اللَّذَّةَ التي وجدَها ابنُها في الصَّلاةِ.. هي التي جعلتْه لا يُجيبُها حينَ تناديه.. ولا يأتي إليها حيثُ اشتاقَتْ إليه.. فدَعَتْ دعاءَها المذكورَ: “اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ”.. أتعلمونَ لماذا؟!
لأنَّ النَّظرَ إلى وجوهِ المُومساتِ.. يُذهبُ لذَّةُ العبادةِ.. فلا يشعرُ العابدُ فيها بالسَّعادةِ.
فأرادتْ أن تحرقَ قلبَه على الصَّلاةِ وهي أعزُّ ما يملكُ.. كما أحرقَ قلبَها عليه وهو أعزُّ ما تملكُ.. ولو دعتْ عليه بالزِّنا لهلكَ وهي لا تُريدُ له الهلاكَ.. وإنما أرادتْ أن يعرفَ معنى: أُمُّكَ ثم أُمُّكَ ثم أُمُّكَ ثم أَبَاكَ.
فما أرحمَ الأمَّ حتى حينما تغضبُ على ولدِها.. وما أرأفَها حتى حينما تدعو على فلذةِ كبدِها.. فاستجابَ اللهُ الدُّعاءَ.. ومُرَّ به على شارعِ البِغاءِ.. فنظرَ في وجوهِ الزَّانياتِ المشئومةِ.. وعلمَ ما أرادتْ أمُّه المكلومةُ.
عبادَ اللهِ..
تعالوا لنرجعَ إلى أنفسِنا وننظرُ دونَ مجاملاتٍ.. ما هو أثرُ إطلاقِ أبصارِنا في هذه الشَّاشاتِ.. على جميعِ عباداتِنا وخاصةً الصَّلواتِ.. هل نجدُ ذلكَ الخشوعُ الذي يجعلُ ثِقلَ الصَّلاةِ خَفيفاً؟.. ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
أينَ الخشوعُ الذي كانَ أغلى ما عندَ سلفِنا الصَّالحِ؟.. حتى إنَّ الصَّلاةَ كانتْ أحبُّ إلى أحدِهم من نفيسِ أموالِه.. فَعَنْ بَكْرِ بْنِ مَاعِزٍ قَالَ: “اشْتَرَى الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ فَرَسًا بِثَلاثِينَ أَلْفًا فَغَزَا عَلَيْهَا، قَالَ: ثُمَّ أَرْسَلَ غُلامَهُ يَحْتَشُّ، وَقَامَ يُصَلِّي وَرَبَطَ فَرَسَهُ، فَجَاءَ الْغُلامُ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ أَيْنَ فَرَسُكَ؟، قَالَ: سُرِقَتْ يَا يَسَارُ، قَالَ: وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهَا؟، قَالَ: نَعَمْ يَا يَسَارُ، إِنِّي كُنْتُ أُنَاجِي رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَمْ يَشْغَلْنِي عَنْ مُنَاجَاةِ رَبِّي شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَرَقَنِي وَلَمْ أَكُنْ أَسْرِقُهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَاهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَاغْنِهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ”.
بل يعجبُ الإنسانُ من خشوعِ أحدِهم حتى أنَّه لا يشعرُ بما يجري حولَه.. قالَ ميمونُ بنُ مهرانَ: “ما رأيتُ مسلمَ بنَ يسارٍ ملتفتاً في صلاةٍ قط، ولقد انهدمتْ ناحيةٌ من المسجدِ، ففزعَ أهلُ السُّوقِ لهدمِها، وإنه لفي المسجدِ يُصلي، فما التفتَ.. بل وقعَ حريقٌ فِي دارِه، فجاءَ الجيرانُ يُطفئونَ وَهُوَ يصلي مَا يَشعرُ، فقالتْ امرأتُه: وقعَ الحريقُ فِي دارِنا، والجيرانُ يُطفئونَ، فَقَالَ: مَا شَعرتُ”.
أينَ تلكَ اللَّذةُ التي يتحسرُ أحدُهم على فراقِ الدُّنيا لا لشيءٍ من حطامِها.. وإنما لأنَّه سينقطعُ عن العبادةِ التي يجدُ فيها سعادتَه.. لَمَّا حَضَرَ المَوْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ جَعَلَ يَبْكِي، قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟، قَالَ: “مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ المَوْتِ، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الهَوَاجِرِ، وَعَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ”.
وَحَضَرَتِ الوَفَاةُ أَحَدَ الصَّالِحينَ فَجَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، وَبَكَى بُكَاءً عَظِيمًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فقَالَ: “مَا أَبْكِي إِلَّا عَنْ أَنْ يَصُومَ الصَّائِمُونَ للهِ وَلَسْتُ فِيهِمْ، وَيُصَلِّيَ المُصَلُّونَ للهِ وَلَسْتُ فِيهِمْ، وَيَذْكُرَهُ الذَّاكِرُونَ وَلَسْتُ فِيهِمْ؛ فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي”.. فما الذي وجدَه هؤلاءِ في العباداتِ وما وجدناه.. وما الذي ذاقوه من حلاوتِها وما ذُقناه.. وما الذي شعروا به من السَّعادةِ وما شَعرناه.. وإلى متى ونحنُ نرى طريقَ العابدينَ وما سلكناه؟!
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
هلال الهاجري