قصة قصيرة:رحلة أرملة وعانس وعروسين

تاريخ النشر: 17/11/13 | 7:54

وصلت إلى روما مساء الأمس، في رحلة منظمة، وكان جميع المسافرين متعبين، فما أن تسلمنا مفاتيح الغرف، حتى أوى كل إلى فراشه، ولم يكن هناك وقت كاف للتعارف بين المسافرين في نفس الفريق، كما جرت العادة في رحلات منظمة شاركت بها في السابق. كان همي الوحيد أن أستحم، ثم الخلود إلى النوم.

أصارحكم القول، إن أكثر ما أحبه في الفنادق هو طعام الفطور.. استيقظت باكرا، وكنت من الأوائل الذين دخلوا غرفة الطعام، أخذت طبقا واسعًا وذهبت إلى البوفيه وملأته بكل ما لذ وطاب، جلست إلى طاولة قريبة من البوفيه، حتى إذا رغبت بشيء آخر أتناوله بسرعة.

تناولت طعامي وارتشفت الشاي من فنجاني وعيناي على البوفيه، أراقب النزلاء وهم يملؤون صحونهم، ولفت نظري شاب وفتاة، وعرفت من حديثهما أنهما متزوجان حديثا، وهما في رحلة شهر العسل.. تمنيت أن استمع إليهما أكثر، لكنهما جلسا على طاولة بعيدة، فأنا لم أعش هذه المتعة مع زوجي، لأننا لم نكن نملك النقود الكافية لخوض ما يسمى "شهر العسل" عندما تزوجنا. مع أننا سافرنا كثيرا فيما بعد قبل أن يرحل عني ويتركني سائحة وحدي في هذا العالم. قررت مراقبة الزوجين، لعلّي أستنبط مدى سعادتهما وأسعد معهما للحظات.. فجأة، وما أن جلسا، حتى اقتربت منهما فتاة، أكبر قليلا بالسن من الزوجين وما زالت تحمل مسحة من الجمال لا بأس بها.. حيتهما، ووضعت طبقها على نفس طاولتهما، وتحدثت إليهما دون توقف، جل اهتمامها كان العريس وليس عروسه.. لعنتها في سري.. لماذا حضرت هذه الدخيلة وقطعت انسجام أول صباح للعروسين؟

لا بد أنها إحدى قريباتهما.. من المؤكد، أنها شقيقة العريس، لكن بأي حق ترافقهما في رحلة شهر العسل.. تصورت السيناريو الذي حصل، حتى وافق العروسان على حضورها معهما.. وكان كما يلي:

***

اتصلت الشقيقة بأخيها لتعلمه بأنها تود مرافقتهما إلى خارج البلاد لقضاء شهر عسلهما، وخطرت في بال الأخ فكرة جهنمية، وقال في نفسه: "إجت والله جابها"، ها هي هدية شهر العسل وصلت دون أن اطلبها، فإذا اقتنت الشقيقة التذاكر على حسابها الشخصي، فسأعتبرها هدية القدر.

رحب الأخ بالفكرة، فأخته فعلا خفيفة الظل كريمة النفس. وبينهما حديث مشترك.. وبالعكس، يمكن أن تضفي الأخت بهجة على شهر عسلهما.

فحصت الأخت ثمن التذاكر، اتصلت بأخيها وإمارات الاستياء تبدو على وجهها بسبب ارتفاع ثمنها. فطلب منها أخوها شراء تذاكر له ولعروسه ما دامت في مكتب السياحة، على أن يدفع لها ثمنها بعد ذلك من نقوط العرس.

فورا، اشترت الأخت التذاكر التي كلفتها أضعاف ما تأخذه من التأمين الوطني لأنها عاطلة عن العمل، وفعلا خرجوا معا في هذه الرحلة ولكن العروس الجميلة ذات العيون الخضراء تنظر إلى أخت العريس بنظرات غير مريحة، ولا تعرف الأخت بأنها لن تسترد ثمن التذاكر.

أثناء حياكتي لهذا السيناريو الذي بدا لي معقولا في بادئ الأمر، لفت نظري في غرفة الطعام عائلة أوروبية مع ثلاثة أبناء شقْر الملامح، الأب سمين ذو كرش كبيرة، وزوجته بقربه تنظر شمالا ويمينا. استوقفني هذا المشهد وبدأت أراقبهما، مبتعدة عن العروسين و"الشقيقة"، فلي عيون كعيون النسر تصطاد الفريسة من علو شاهق، ولم يخنِّي حدسي. قام الرجل الأوروبي بدس الساندويتشات التي جهزها مع زوجته عن طاولة الفطور في حقيبة وضعها تحت الطاولة، وكما يبدو، هو يعد الغداء لأفراد العائلة على حساب الفندق، رأيت النادل يسير باتجاه طاولة الأوروبي، فرفعت له يدي ليقترب إلى طاولتي لأصرف نظره عن العائلة. مسكين هذا الأوروبي، فالفقر ليس فقط من نصيبنا كعرب، وليس له وطن.

نسيت العروسين و"الشقيقة"، وواصلت احتسائي للقهوة الصباحية في غرفة الطعام في الفندق، لكن بالتفاتة مني، لاحظت ما يفند السيناريو الأول الذي ألفته بداية، لمست نظرات إعجاب بين العريس والدخيلة، ليست نظرات أخ لأخته وربما تفكيري كان خاطئا فربما هي شقيقة العروس، وليس العريس لكن كيف تسنّى لشقيقة العروس الذهاب معهما في شهر العسل وكيف وافق العريس على ذلك، فما شهر العسل إلا فرصة للاختلاء بين العروسين وحدهما، فإذا كانت شقيقتها فهناك أكثر من سيناريو لجعل هذه الفتاة ترافقهما.. سأكتب من جديد سيناريو آخر:

***

سكون الصباح لا يعكره شيء سوى طقطقة الملاعق والشوك بأيدي المستجمين، خيوط الشمس سبقتها حرارتها ولم تسطع بعد. جلست شقيقة العروس في مقعدها الوثير وسيجارتها متقدة ورائحة دخانها تختلط بنسمات الصباح. أهدت الشقيقة تذاكر السفر للعروسين فهي قريبة جدا من أختها، بواسطتها تعرفت العروس على العريس، وإكراما منهما دعواها لمرافقتهما، وهي لأسبابها الشخصية وافقت بسرعة، فبمجرد التردد تخسر الدعوة التي لا تأتي من القلب عادة في مثل هذه الظروف. ثم أن أهل العروس، وخاصة والدها، طلب من ابنته العروس أن تسمح بانضمام أختها لرحلتهما، ولا ترفض العروس لوالدها طلبا، فأختها لم تسافر ولو مرة واحدة إلى خارج البلاد، ومن غير المستبعد أن يكون الوالد هو الذي تكفل بمصاريف السفر.

تنم نظرات الشقيقة إلى عريس أختها عن نظرات غيرة وشوق ورغبة وحسد لأختها.. وهي تتساءل: متى يأتي اليوم وتسافر هي في شهر عسل مع حبيبها؟ ولكن شيئا ما في عينيها العسليتين كان يدل على حزن عميق أو اضطراب أو قلق مقرون بالدهشة والتساؤل عن مصيرها.. ومن نظراتها الواضحة والشغوفة للعريس، فإنها معجبة به حتى النخاع، فقامت الأخت بالعديد من المحاولات لتكون معهما في شهر العسل وهنا يحضرني افتراض آخر ربما لم تكن شقيقة العروس، بل صديقتها!!

***

أما السيناريو الثالث لهذه الدخيلة، فهي كالشوكة التي تعلق بجانب الورود وتحتمي بظلها وتعشق عبيرها. فهذه الفتاة هي مجرد صديقة كانت على علاقة متينة مع العريس ولكنه رفض أن يتزوجها لأنه أخبرها منذ البداية بأنه ينوي الزواج من فتاة ما زالت مغلفة بالنايلون، "يد أولى" لم يكن لها علاقات سابقة مع أي شاب، والدخيلة لم تعرف غير هذا الشاب، وهي مغرمة به ومخلصة له حتى النخاع، ولا يمكنها الابتعاد عنه، وكانت مستعدة لتصبح زوجته الثانية سرًا، حتى لو زارها في لحظات خاطفة دون علم أحد. فهي لا تريد أي شيء منه إلا حبه، حتى لو كان بالتقطير. لكنه رفضها بمجرد أن وافقت على مشاركته السرير قبل الزواج. وتزوج من عروسه هذه، ابنة رئيس مجلس القرية، ولا يمكن أن يوافق على ما تريده خليلته. ثم انه قال لها رأيه بصراحة، معتقدا بأنه أزال عن كاهله المسؤولية حيالها، لذلك طلبت من حبيبها الطلب الأخير، وهو أن ترافقهما في شهر عسله وعلى حسابها الشخصي، وهي لا تريد منه أي شيء. وقد عملت على مصادقة العروس قبل زواجها، وافتعلت سفرها إلى هنا وكأنه صدفة أمام عروسه اللعوب ذات العيون الخضر!!

مضغت الهلالية (الكرواسون) بالزبدة التي أعشقها، ورأيت أن جميع افتراضاتي لم تصب لصالح تلك الدخيلة التي اقتحمت صباحية هذين العروسين.. في نفس اللحظة، وقفت الدخيلة وتوجهت إلى البوفيه ووضعت في طبقها الفارغ بعض الحلويات، ولكنها لم تعد إلى طاولة العروسين. قلت في نفسي: ها هي أعتقتهما من تدخلها السافر، ولدهشتي رأيتها تسير نحوي وهي تبتسم لي.. يا إلهي، إنها تتجه نحوي! ماذا حصل لها؟! ماذا تريد مني؟! هل كانت تستمع إلى أفكاري؟!

وصلت إلى طاولتي وقالت: صباح الخير.. هل أنت سماهر عاصي؟

علقت اللقمة في حلقي ولم أستطع الإجابة، لكنها ابتسمت ابتسامة عريضة يفوح منها شذا الورود والأزهار العطرة، وقالت: أنا هدى ياسين، مندوبة شركة السياحة، منظمة رحلتكم. لم تسنح لنا الفرصة بالتعارف بالأمس، لأنكم وصلتم في ساعة متأخرة من الليل، لكني الآن أتوجه إلى جميع المسافرين، لأشرح لهم برنامج الرحلة المنظمة.. هل تسمحين لي بالجلوس معك؟

قدمت مندوبة شركة السياحة شرحا مفصلا عن برنامج الرحلة وحرقت جميع سيناريوهاتي الغبية.

تركتني وحدي أوبخ نفسي على ما أقترفه تفكيري الجامح، ودون أن أدري ما هي البواعث التي دفعتني لأفعل ما فعلت، نظرت يسارًا ويمينا، فلم أر أحدا منتبها إليّ. لففت بعض هلاليات الكرواسون بأوراق الفندق الناعمة، ودسستها في حقيبتي النسائية الجميلة وخرجت أسير الهوينى من غرفة الفطور نحو الحافلة التي ستقلنا إلى الفاتيكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة