الفلاح والقيامة

تاريخ النشر: 18/11/13 | 10:42

كان فلاحا في الخمسين، يملك قطعة أرض صغيرة بأحد أرياف الوسط التونسي. يعتمد في ريّها على مياه الأمطار اعتمادا كاملا. لم تمطر تلك السنة. أمطرت في الشمال وعلى السواحل، لكنها لم تمطر عندهم. الأرض تشققت من أثر الجفاف، وقطيع الشياه الذي كان يملكه يكاد ينفَق، والكل في القرية اجمع على أنها سنة زراعية كارثية.

قيل تلك الأيّام بأنّ الرّجل شوهد في حقله أكثر من مرّة يُحدّث حماره الرمادي، يلعن الأرض والسماء، يلطم وجهه بكفيه، ويُهيل التراب على رأسه ويبكي.

زوجته قالت انه لم ينم ساعة واحدة طوال ذلك الأسبوع الذي سبق مجيئه إلى الرازي. وروت كذلك أنّه كان جمّ النشاط، كثير الكلام، يغادر البيت كل ليلة ولا يعود إلا عند ساعة متأخرة، وأحيانا عند طلوع الفجر. قالت أنّ لا همّ له تلك الأيام غير الحديث عن المال والأعمال، ولا يختم حديثه إلا لاعنا الأرض والسماء.

لم يكن له أبناء، فقد تزوج أكثر من مرة ولم ينجب. ولما أيقن أنه كان السبب، لأن إحدى طليقاته تزوجت بعده وأنجبت، طلّق زوجته الرابعة وعاد فتزوج الأولى. زوجته أكّدت أنه غادر البيت باكرا يوم الواقعة. وعاد عند الظهيرة يجرّ حماره الذي كان ظهره مثقلا بأخشاب طوال، لا أحد يعرف من أين جاء بها. أمضى بقية يومه في شحذ السكاكين وصقل الفأس، وعند الغروب شرب كأسا من الشاي، ثم صلّى، وحمل الفأس والسكاكين وعبأها على ظهر الحمار، وغادر البيت.

رجال الحرس قالوا بأن أول من سرّب الخبر لبقية أبناء القرية كان راعيا مرّ فجرا قرب حقل الفلاّح، وكان أول من تفطن، مُصادفة، لما يدور هناك. راح أهل القرية يتقاطرون على الحقل تباعا، حتى النسوة جئن مع أطفالهن، وقد رحن يتابعن ما يدور هناك من بعيد، وكلهنّ رهبة. الرجال كذلك كانوا جزعين، وحتى أشجعهم لم يتجرأ على الاقتراب كثيرا. انتشرت التأويلات بينهم سريعا، وكان أغلبها متشائما، وقد غذاها بأس ما كانوا يرون. أخيرا قرروا مناداة الحرس الوطني ليأتي ويحسم الأمر، ويقيهم شرّ كارثة يرونها على وشك الوقوع.

جاؤوا سريعا كعادتهم. هم أيضا ذهلوا لمّا رأوا ما رأوا. ارتبكوا بعض الشيء، وترددوا في كيفية اقتحام الحقل. وزادهم في ذلك كثرة الشائعات والتأويلات التي تنامت لدى أهل القرية قبيل مجيئهم، وقد أعدوهم بها، وبثوا فيهم من جزعهم. أخيرا حسموا أمرهم واستلّوا أسلحتهم واقتحموا الحقل.

يُقال أن أوّل ما اعترضهم كان بركة من الدم المتخثر، تكاد تُكوّن مستنقعا صغيرا، وقد تكاثف حولها عدد هائل من الحشرات. بعد ذلك عَرَض لهم أكثر من عشرين عمودا خشبيا مغروزا في الأرض بالتوازي، لتشكّل ما يشبه الممر الذي يقود إلى داخل الحقل، وقد عُلّقت على كل عمود سليخة من الشياه، حمراء، مبقورة البطون، يتدلى فرثها. عندما بلغ رجال الحرس نهاية ممرّ السلائخ، اعترضتهم حفرة كبيرة ينبعث منها دخان أسود كثيف. كانت جلود الشياه المسلوخة مرمية هناك، تنهشها النار، تنبعث منها رائحة شواء غريبة. الدخان الكثيف منعهم من أن يروا بوضوح ما يدور داخل بقية الحقل. جاوزوا الحفرة وتقدموا أكثر، لينكشف لهم أخيرا ما يدور هناك.

رأوا قرابة الأربعين حفرة يزيد عمقها عن المتر، مستطيلة الشكل، محفورة بشكل متواز، مصفوفة، كالقبور. كان ما أمامهم جبّانة حديثة الحَفر، لا ينقصها سوى قاطنيها ليأتوا ويرقدوا في سلام. الحقل صار جبّانة. شياه سليخة، حُفَرٌ، دخان ودماء، لقد اتّضح الأمر لدى رجال الحرس، وصدقت نبوءات الأهالي: جُنّ الفلاح، وهو يعدّ لمجزرة يأتي فيها على كل أهل القرية، من ثمّ يقبرهم في حقله.

بغتة لمح أحد رجال الحرس التراب ينبعث من داخل أحد القبور. كان الفلاح يضرب برفشه هناك، ويلقى التراب خارج القبر. تحفزّ الرّجال، وراحوا يقتربون من القبر في بطء. الفلاح لم يتفطن إليهم، كان غائبا تماما، منهمكا في الحفر، وقد صار الرفش جزءا منه. كان ذلك مّا ساعدهم على مباغتته، لأن أحدهم تسلل خلفه ثم أهوى على رأسه بعصاه، بكل قوة، ليسقطه في الحال مغميا عليه.

الفلاح أفاق في سيارة الحرس وهي في طريقها إلى الرازي. كان مغلولا، فزِعا، لم يفهم سرّ ذلك الانتقال المفاجئ، ولا سبب وجوده بتلك السيارة. كل ما كان يذكره هو أنه كان يحفر، يحفر ويحفر، ولا شيء غير الحفر. ارتبك واختلط الأمر عليه. وكل ما حاول الحراك كانوا يرجمونه بالغاز المسيل للدموع، أو يضربه أحدهم على رأسه ليفقده وعيه من جديد. ولمّا بلغ الرازي استقبلوه بحقنة عالجته تماما.

عرضوه على الطبيب عندما هدأ قليلا، ووعى مكان نزوله. بعد ذلك عرضوه عليّ لأجري له اختبارا نفسيّا، وأتأكد من صحة مداركه العقلية، فحدّثني عن قصة القبور…

لم يكفّ الرجل عن الضحك في ما يخص ما ذهب إليه أهل القرية ورجال الأمن من أمر القبور، وخوفهم من أن يرتكب مجزرة يذهبون ضحيتها، ولم يكف عن نعتهم بالغباء والوحشية. وأقسم أكثر من مرّة بأنّه سيقاضيهم على ما ألحقوه به من أذى.

قال إن القبور استثمار، والشياه الذبيحة كانت ستنفَق بسبب الجوع والجدب، فقرر تقديمها قربانا، لتبارك السماء مشروعه. لقد أيقن أن الفلاحة صارت مهنة كاسدة، خاصة أنه لا يملك مالا كافيا ليحوّل أرضه إلى أرض سقوية. وبعد أيّام قضّاها في التفكير في كيفية إعادة استثمار أرضه بطريقة مبتكرة، أشرق ذهنه بتلك الفكرة الغريبة.

قال لي بأنّه قرر أن يستثمر في الموت. الموت عُملة لا تعرف الكساد. سيحوّل أرضه إلى جبانة، ثم يُأجّر القبور. فمن يموت، يموت إلى الأبد، ويظل أهله وأحفاد أحفاده يدفعون كراء قبره إلى الأبد. كما يمكن لأهل الميت استئجار القبر لعدد محدد من السنوات، بعد ذلك يمكن تسريحه وتأجيره لميت آخر. وختم حديثه بأن أرضه ميتة لا محالة، وليس في وسعه إلا أن يجعل منها مقبرة، وليدُرّ الموت مالا، وليعمُّ الرّخاء.

كانت أغرب قصة مجنونة شهدها القسم منذ أعوام. الفلاح مكث في القسم قرابة شهر ونصف، تحت المتابعة «والعلاج»، ثم أطلق سراحه. لقد تذكّرته هذا الصّباح بعد أن جيء به إلى القسم، مرّة ثانية، ليلة أمس. رجال الشرطة جاءوا به مرة أخرى، وطلبوا إيواءه إجباريا. يبدو أنه أزعجهم كثيرا في الأيّام الأخيرة. لقد أمطر وزارة الداخلية وكل الجهات الأمنية بوابل من الرسائل، تحوي كلها مطلبا واحدا: «طلب ترخيص لافتتاح مركز شرطة خاص»، ولمّا لم يعيروه انتباها، أخذ يتردد عليهم ويطالبهم بتلبية مطلبه. نهروه أول الأمر، ولم يأخذوه على محمل الجد، ثم ضربوه حين ازداد إلحاحا. ولمّا يئسوا منه تماما، جاؤوا به إلى الرازي…

لقد قال لي قبل قليل بأنه يعلم أن قطاع الأمن في طريقه إلى الخصخصة. ويريد أن يكون من السبَّاقين في الاستثمار فيه. وقال إنه سيبيع أرضه ليفتتح بعائداتها مركزا للأمن، فالكثير من الناس لا يأخذ لهم الأمن العمومي حقهم، وهو واحد منهم، ووحدها خصخصة القطاع يمكن أن تتيح لهم ذلك.

أيمن الدبوسي – كاتب وأخصائي في علم النفس، من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة