مجد كيال: ماذا يعني الاعتراف الإسرائيلي بالنقب
تاريخ النشر: 20/11/13 | 6:55نضال طويل وعنيد، وإن لم يكن شرساً، خاضه ويخوضه البدو من أجل مطلب صار مع الزمن شعاراً للنقب: "الاعتراف".
منذ النكبة، لم تكن إسرائيل تعترف بقرى البدو في النقب، وحصرت الاعتراف في البلدات الحكوميّة التي أسستها ونقلت السكّان إليها قسراً.
في العام 2003، اتخذت الحكومة قراراً خارجاً عن القاعدة بالاعتراف بثلاثة عشر قرية. الاعتراف، في هذا السياق، يعني اعتراف الدولة الإسرائيلية بأن هذه قرى قائمة ولها وجودها في المعطيات الرسميّة، وتتعامل معها السلطات على أنها تجمّع سكّاني قانوني، في حين تعتبر القرى غير المعترف بها تجمّعات لمُقتحمي أراضي الدولة.
إذاً اعترفت الدولة بثلاث عشرة قرية كانت أولاها قرية أبو قرينات ثم قصر السّر، وكذلك قرية بير هدّاج التي هُجرت في النكبة وعاد إليها أهلها رغم أنف الحكم العسكري، وغيرها. ضمّت إسرائيل هذه القرى كلها تحت إدارة ما يسمى بـ"المجلس الإقليمي"، وهي وحدة حكم محليّ لمجموعة من التجمعات السكّانية الصغيرة في منطقة معيّنة.
المجلس الإقليمي "أبو بسمة"، صار اسم المنطقة بعد الاعتراف بها، على اثر نضال عنيد، وإن لم يكن شرساً. فما الذي جناه البدو من هذا الاعتراف؟ لا شيء.
قبل الاعتراف، كانت هذه القرى – المُعترف بها قبل عقد من الزمن – والتي يسكنها أكثر من 36 ألف نسمة، محرومة من الخدمات الأساسيّة، من المياه والكهرباء، والعيادات الصحيّة، والمدارس، والمواصلات، والطرق، وشبكة المجاري. وكانت البيوت تهدم فيها بشكل متواصل، وأراضيها مصادرة تماماً. هذا الوضع لا يختلف بأي تفصيل عمّا آلت إليه الأمور بعد الاعتراف.
أين تبدأ المشكلة؟
في عمق هذه الأزمة نجد سياسة إسرائيليّة متكاملة حاضرة في كل مكان، حاضرة في القدس وفي الأراضي المحتلة عام 1967 وحتى في الجليل والمثلث. المبدأ الأوّل في هذه السياسة هو تجزيء القضايا، تفكيكها ومحاولة تسديد "حلّ" لكل طرف من أطراف القضيّة الواحدة قضيّة الاحتلال الاستعماري – على أدنى المستويات من التفصيل.
في قضيّة القرى غير المعترف بها، جرى الفصل بين الاعتراف بوجود هذه القرى البدوية من جهة، وبين الاعتراف بملكيّة البدو لأراضي هذه القرية من جهة ثانية. أي أن إسرائيل تعترف بوجودٍ رسميّ لهذه القرى، لكن الأراضي التي تُقام عليها القرى هي ملك للدولة وليست حقاً تاريخياً للبدو على أرضهم المتوارثة منذ مئات السنوات.
في هذه النقطة يتحوّل الصراع، بعد الاعتراف، إلى صراع على مُلكية الأرض، وهو الصراع الوحيد الذي لا يمكن لإسرائيل التنازل فيه أبداً. بالنسبة للصهاينة، أول اعتراف بملكية بدوي للأرض سيفتح عليهم أبواب ما يعتبرونه جهنّم: تحصيل الناس لحقوقهم. كل ما تقوم به إسرائيل في النقب هو بالأساس محاولة لحسم قضيّة "دعاوى الملْكيّة"، وهي الدعاوى التي يتقدم بها أهالي النقب للمحاكم للحصول على اعتراف بملكيّتهم لأراضيهم. وجزء أساسيّ من المحاولات الإسرائيليّة لحسم هذه القضيّة يتجسّد في مشروع قانون "برافر".
بموجب مشروع القانون هذا، ستصبح الإمكانيّة الوحيدة لإثبات ملكيّة البدو لأراضيهم، هي الأوراق الإسرائيلية الرسميّة فقط. أي أن اثباتات الملكيّة الانتدابيّة أو العثمانيّة تصبح من دون أي أدنى قيمة، أو حتى صور الأرشيف البريطانيّة، إضافةً إلى أن الآثار العمرانيّة والمعالم التاريخيّة، مثل المقابر والآبار وغيرها، لا تعود صالحةً لإثبات ملكيّة البدو للأرض.
ما هي الحالة الوحيدة التي تعترف إسرائيل بملكيّة البدوي لأرضه؟ حين يقبل ببيعها.
بعد الاعتراف الرسمي بوجود هذه القرى، تتحوّل الخدمات الإنسانيّة الأساسيّة، مثل الإسعاف والماء، إلى أدوات لابتزاز البدو من أجل التنازل عن أرضهم. يصبح التعليم، الكهرباء، العيادات الصحيّة، البريد، المكاتب الرسميّة، وغير ذلك الكثير، خدمات تمنعها إسرائيل إلى أن يسحب البدو دعاوى ملكيّتهم. وعلى سبيل المثال، فإن مشكلة البناء في القرى غير المعترف بها هي أنه لا يمكن استصدار رخص للبناء، والبناء "غير القانوني" مهدد بالهدم في أي لحظة. أي هي حلقة مفرغة، وعبثية، لكن بشكل إرادي، معقلن ومخطط له.
منذ عشر سنوات من "الاعتراف"وحتى اليوم، ورغم وجودة خرائط هيكليّة للمجلس الإقليميّ، لم يتم استصدار أي رخصة بناء، والهدم الإسرائيلي مستمر دون هوادة.
الأطفال أول ضحيّة
رغم خطورة التفاصيل كلها، وعلى جميع الأصعدة، يبقى هناك ما هو مقلق أكثر بكثير على المستوى الإنساني الأساسي.
إن الإهمال والتهميش اللذين يعانيهما أهالي النقب في هذه القرى يسلبان حياة الأطفال: العيادات الطبيّة معدومة، ومنها عيادات الأطفال خاصةً، تلك المسؤولة عن التطعيمات ومتابعة صحة الأطفال في سن الرضاعة، مفقودة تماماً أيضاً. بحسب الإحصائيّات الإسرائيليّة، فإن نسبة موت الأطفال البدو في النقب أعلى بـ 375 في المئة من نسبة موت الأطفال في المجتمع الإسرائيلي. من كل 1000 طفل بدوي يتوفّى 10.5 أطفال، بينما من كل 1000 طفل يهوديّ يتوفّى 3.8 أطفال.
من دون مراكز طبيّة، ومن دون مواصلات، ومن دون طرق تسمح لسيارات الإسعاف بالدخول إلى القرى، تبقى سلامة العائلات البدويّة معلقةً في الهواء.
لعل أكثر ما يصف الحالة بدقة قصة من قرية عبدة، وهي واحدة من قرى أبو بسمة. بعد نضال، افتُتحت عيادة طبيّة في القرية، بعد فترة وجيزة من افتتاح العيادة، بدأت تعمل ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، ثم تحوّلت تعمل لساعات محدودة في النهار.
أما في هذه الأيام، فتعمل العيادة الطبيّة الوحيدة في المنطقة لمدة أربع ساعات أسبوعيّة فقط. المصيبة لا تنتهي هنا: الأطباء الذين يعملون في هذه العيادة هم بالأساس أطباء من المركز الطبيّ القائم في مستوطنة "ماتسبي رامون" اليهوديّة، وغالباً لا يحضرون حتى للساعات الأربع الأسبوعيّة بسبب ضغط العمل في المستوطنة. حين يخف ازدحام المرضى اليهود، يأتي دور المرضى العرب.
وإذا أشرنا إلى انعدام عيادات الأطفال التي تقدّم اللقاحات الضرورية، فكيف لا نذكر أن وزارة الصحة الإسرائيلية بدأت تنفذ قانونًا بموجبه تقلّص بنسبة كبيرة مخصصات الأطفال لمن لم يتلق منهم تلك اللقاحات.
قانون يستهدف أفقر الشرائح الاجتماعيّة على الإطلاق، تزيد سلطات الاحتلال من فقر الناس على أساس واقع فرضته هي بنفسها، ويطالبها الناس بتغييره، خاصةً وهم يعيشون في مناطق تمر عبرها مستنقعات ووديان من المجاري والمياه العادمة، نتيجةً لتعنّت إسرائيل في عدم ربطها بشبكة المجاري، إلى أن يتم التنازل عن الأرض.
لماذا يزيد الأمر إلحاحاً اليوم؟
قضيّة القرى التي اعترفت بها إسرائيل هي قضيّة ملحّة، وللأسف يتأخر فلسطينيو الداخل بطرحها. "برافر" على الأبواب، المخطط الذي سيُهجّر الـ40 قرية التي بقيت من دون اعتراف حتى اليوم. يهدمها ويهجّر أهلها الذين يصل عددهم إلى 50 ألف إنسان، ويحسم بهذا دعاوى الملكيّة على قرابة المليون دونم.
الادعاء الأساسي، والوحيد تقريباً، الذي يملكه الإسرائيليّون تبريراً لبرافر، هو أنه سيتم نقل السكّان من القرى غير المعترف بها إلى القرى المعترف بها كي يتمتعوا بكافة الخدمات والمستوى المعيشي الملائم.
علاوة على سرقة قرابة المليون دونم من الارض، فإن دخول نحو خمسين ألف إنسان إضافي إلى هذه القرى، سيتم تهجيرهم بموجب قانون برافر من القرى "غير المعترف بها" إلى القرى والبلدات "المعترف بها"، سيجعل الأوضاع المعيشيّة في هذه القرى كارثة اجتماعيّة غير مسبوقة.
إسرائيل مصرّة على تنفيذ مخططاتها، وهي تلجأ إلى سلاح مركزيّ في هذه المعركة – سلاح القيادة. إسرائيل تمنع حتى اليوم، ومنذ عشر سنوات، إجراء انتخابات ديموقراطيّة لاختيار رئيس وأعضاء مجلس للمجلس الإقليمي "أبو بسمة"، وتمنع البدو من اختيار من يمثلهم ومن يمثل مصالحهم.
تعنتت الدولة وماطلت، حتى أجبرتها المحكمة على إجراء الانتخابات استجابةً لالتماس قدمه مركز "عدالة" الذي يعمل في المرافعة القانونيّة أمام المحاكم الإسرائيليّة بجميع المجالات المتعلّقة بقضايا النقب. فما كان من الدولة إلا أن أعلنت عن حلّ المجلس الإقليمي، وإعادة إنشاء مجلسين منفصلين، وذلك من أجل كسب عشر سنوات أخرى تماطل خلالها وتنفذ مخططاتها.
من يتصدّى إذاً؟ القيادة في النقب منقسمة بين القيادة التقليدية والقيادة الشبابيّة، والعلاقات بين مدٍّ وجزر. القيادتان متمسكتان بالنضال الطويل والعنيد، لكن الخلاف هو حول "شراسته". القيادة التقليدية متمسكة بخيار المرافعة والتفاوض والحلول الوسط، بينما القيادات الشبابيّة ترى أن النضال الشعبي هو الطريق لوقف المخططات التهجيريّة. لكن إمكانات الشباب وتفاعل المحيط الاجتماعي معهم محدودة.
قضيّة النقب هي قضيّة ملكيّة الأراضي، أي القضية المركزية في عموم فلسطين، وفي المعطى الكولونيالي الاستيطاني. هذا هو المكان الأخير في فلسطين التي لا تزال هذه القضيّة فيه مباشِرة وواضحة ولا تأتأة فيها.
وتحاول إسرائيل أن تنقل المسألة إلى صراعٍ على خدمات وميزانيّات، كما فعلت ونجحت في ذلك في مناطق أخرى من الداخل الفلسطينيّ.
لكن الزمن من جهة، وتعامل البدو مع الأرض مختلف، كما هي مختلفة الأعراف، والتركيب الاجتماعي والتقليدي.
وهذا، مع كل النقد والنقاش الداخلي الاجتماعي، هو ما يحمي الأرض حتّى اليوم. ميزة النقب الأولى هي الصمود والصبر، النضال الطويل والعنيد، لكن السؤال الذي يطرحه الشباب في النقب هو سؤال شرعي ولازم: إلى متى يُمكن أن نكون الطرف السالب في الصراع، وأن نبقى ونحن نُضرب ونُهدم ونعيش في الحضيض؟ إلى متى ستغيب "الشراسة" عن وجه نضالنا؟
كل الاحترام-
حسب رايي اللغة لها اثرها- لذلك يجب استعمال كلمتي العرب في النقب او العرب البدو-
الدور علينا اذا لم نتنظم- انظروا الي الهدم ومنهجيته في “اطراف” وادي عارة-