الكتاب متعتي ونزهتي
تاريخ النشر: 20/11/13 | 2:58كان أبي من القراء القلائل الذين يطالعون الصحيفة أو الكتاب في سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، كنت أراه يتصفح صحيفة فلسطين أو الدفاع، وتارة يقلب صفحات كتب فقهية أو تاريخية على ندرتها، فأورثني حب المطالعة والكتاب.
كان إبراهيم المحمود – أبي- يعمل خياطًا، يتاجر أحيانًا بالملابس القديمة، وكثيرًا ما أحضر معه من يافا، وبعد النكبة كتبًا كان يسائلها قبل أن يقتنيها:"هل تفيدين ابني؟".
تأتي البضاعة من يافا، وكانت تأتي معها بضعة كتب، عرفت منها في صغري روبنسن كروزو لديفو، وفقه المذاهب الأربعة، والإمامة لابن قتيبة، والعمدة لابن رشيق، وقد حدثتكم قصة مؤثرة عن هذا الكتاب في رحلتي النقدية.
كنت أضمها لمكتبتي الصغيرة، فأقرأ وأقرأ، وكأنني خلقت فقط للقراءة.
ثم كان أن نشرتُ في مجلة حقيقة الأمر مختارات مما كنت أجمعه من هنا وهناك، نحو: ماذا قالوا في العيون، كأن في التشبيه، أبيات عن التواضع….إلخ. كنت أذكر المقولة ومن قالها، ويدفعني حب الاستطلاع لمعرفة القائل، الأمر الذي ساقني وأنا في الصف الثامن للبحث عن كتب، ولقراءة كتاب تاريخ الأدب العربي من الغلاف للغلاف، فأعجب بهذه اللغة الزيَاتية المميزة. كنت استعرت الكتاب من قريب لي، فوجدته متهالكًا ممزقًا لكثرة ما استخدمته الأيدي، وبقيت محافظًا عليه إلى أن اشتريت الطبعة الجديدة، فنقلت إليها ملاحظاتي التي أحب عادة أن أضيفها في كل كتاب أقرأه.
في سنة 1961 تعرفت إلى الصديق نواف عبد حسن، فوجدته يناقشني في مقالات نقدية مبتدئة كنت نشرتها في المرصاد، وله حافظة عجيبة، يذكر ما كتبت، إنه ظاهرة مميزة وغريبة، يعرف أسماء ما استجد من الكتب الصادرة حديثًا، وعن أي دار نشر، ويحفظ ما أعجبه من"البرنامج الثاني" الذي كان يذاع من القاهرة، في الأدب والفن. بل دعاني لأن أصحبه إلى مكتبة جبعات حبيبة حيث كانوا يشترون لمعهد الأبحاث مجلة الآداب، والأديب.
كنا نستعير هذا الكتاب أو ذاك، وننسخ الكتاب تلو الكتاب مما يروق لنا، أذكر منها أنني نسخت قالت لي السمراء لنزار، لم يبق إلا الاعتراف لحجازي، أباريق مهشمة للبياتي…
أخذت أشتري جميع الكتب التي تصدرها دار أجيون في حيفا، ودار النشر العربي، ومكتبة الاتحاد، ومكتبة فؤاد دانيال، واحتفظت بمعظمها، بل إن الأغاني للأصفهاني بدئ بنشره شهريًا في آذار 1963، واحتفظت بكل جزء إلى أن تم النشر، وظل الكتاب مصاحبًا لي حتى غدا لون ورقاته أصفر، فودع المكتبة يوم أن أهدتني أكاديمية القاسمي الكتاب في طبعة جديدة، وذلك بعد حصولي على الأستاذية (آذار 2011).
في المسابقات التي أعلنتها دار الإذاعة ضمن برناج"نجم الشهر" كنت نجمًا في مسابقة المتنبي، الخنساء، الأدب المهجري، وبلغت ذروة الفوز في مسابقة القرآن الكريم، وسميت"حافظ القرآن الكريم"، (آذار 1967)، حيث طُلب منا، وكنا خمسين متسابقًا- أن نحفظ سور البقرة، آل عمران، والنساء والمائدة، وبعض أجزاء أخرى قصيرة الآيات، فبحثت عن كتب التفسير، وعن كتب الأديان المقارنة.
بدأت المكتبة البيتية تتسع وتتسع، بعد أن ترددت على مكتبة المحتسب في القدس، والدنديس في الخليل مرارًا، مكتبة القطب في نابلس، والطبري في طولكرم، وعصفور في جنين، وما من سفرة إلى أي وجهة إلا وكنت أحمل رزمات الكتب، سواء من مدن الضفة المختلفة، أومن القطاع، من الناصرة وحيفا – مكتبة كل شيء، من المعارض التي كنت أترقبها أنا ونواف حتى لحظات عمره الأخيرة، من عمان ومن القاهرة. كتب… كتب… كتب، مجلات…. مجلات، التهمها قراءة وشراء، واثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال.
وتتكدس حتى ضاقت أمي ذرعًا، فصرت إذا أحضرت الكتب أدخل غرفتي متسللاً، وبقيت هذه المحاذرة أيضًا بعد زواجي.
قالت زوجتي: أنت تنفق راتبينا على الكتب، حتى لا نبني بيتًا جديدًا لنا.
قلت لها: هذه الكتب هي التي ستبني لنا البيت. ذلك أنني كنت أشتري ما يفيدني في أبحاثي وكتاباتي، وبالفعل فإن كتابـيّ الجنى في الشعر الحديث، والجنى في النثر الحديث قد درّا علي في سنوات الإصدار الأولى (1984-1985) أموالاً طائلة قبل أن يسرق الناشرون ثمرة أتعابي، وقد أفدت من مكتبتي، ومن المصادر النقدية التي عالجت الأدب الحديث.
وصدق تصوري، فبنيت منزلي – المنزل الذي أحب أن يسميه الشاعر حنا أبو حنا "الزَّهراء" لرحابته وجماله وموقعه، وزينت المدخل بنقش الآية:"وقل رب زدني علمًا"، لأظل أشعر أنه ينقصني الكثير مهما قرأت، وكنت قرأت لبلزاك قولاً أعجبني:"كلما قرأت كتابًا فتحت نافذة على جهلي".
أعترف أن مكتبتي مميزة، فقد جمعت إلى ذوقي ذوق نواف الذي كان يبيع مكتبته بين الفينة والأخرى، ليجددها، ويجدد قراءاته، فأشتري معظم ما أجد ضرورة في اقتنائه. ذلك أنني في كل شراء من أي مكتبة أتصفح الكتاب أولاً، وأعرف مواده، والفهرست ومبناه، وأسأل نفسي إن كان هذا الموضوع يهمني أم لا؟ فإذا كان الجواب سلبًا فإنني لا أمتلك الكتاب حتى ولو مجانًا، وإذا كان الجواب إيجابًا أقتنيه وبأي سعر، وإذا ترددت وكنت بين بين فإن سعر الكتاب يقرر اقتنائي أو عدمه.
أختار الكتب بعناية، بعضها بسبب مؤلفها الذي يروق لي، وبعضها بسبب موضوعها الذي يهمني، وبعضها لأبحاثي التي أعالجها أو سأعالجها.
أحرص على امتلاك كل ما صدرلأدونيس وعنه، لمحمود درويش وعنه، نزار قباني، سميح القاسم، البياتي، عبد الصبور، أحمد دحبور، سيد القمني، صلاح فضل، بورخيس، ريتسوس، شكسبير، ناظم حكمت، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، محمود أمين العالم وعشرات غيرهم، كما أحرص على الحصول على جميع النتاج المحلي للبارزين وللمتوسطين.
أنهمك في القراءة ساعات الصباح، ولدى إعداد بحث، عندها تكون القراءة متواصلة عدا ساعات الليل، فهي للراحة، ولمسؤوليات عائلية.
في مكتبتي الموسوعات، والمعاجم، وكتب التفسير ومئات الكتب اللغوية والنحوية.
فيها دواوين الشعراء المعروفين القدامى والمحدثين، ومئات المجموعات الشعرية المحلية مرتبة هجائيًا حسب الشاعر، وفيها مئات الكتب النقدية، وعشرات الروايات، ومجموعات القصص القصيرة، ومئات الكتب بالعبرية، وأخرى بالإنجليزية، وعشرات بالألمانية.
لدي كتب صدرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أعتز من بينها بكتاب مسارح الأذهان لخليل بيدس، القاهرة- 1924، وهو أول مجموعة قصصية في الأدب العربي – على مبلغ علمي.
أعتز بإهداءات الكتاب، وأقدر أنها تناهز المئات، أذكر منها ما أهدانيه الشاعر صلاح عبد الصبور: مأساة الحلاج، وقد كتب لي:
"إلى الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير". 19/8/1980
وإهداء من نزار قباني:في كتاب جمهورية جنونستان وبخطه الجميل المنمنم كتب:
"إلى صديقي الحبيب
الشاعر فاروق مواسي
مع أصدق مشاعري واعتزازي الكبير
10/7/1988"
في مكتبتي إهداءات من شعرائنا وكتابنا، وخاصة من سميح القاسم، ومن الكتاب الذين التقيتهم نحو أحمد عبد المعطي حجازي، محمد أبو دومة، محمد إبراهيم أبو سنة، محمود أمين العالم، وعز الدين المناصرة، وناصر الدين الأسد، ومحمود السمرة، وووو
من الكتب التي أردت اقتناءها، ولم يتيسر لي ذلك: كتاب (يارا) لسعيد عقل، حتى أدرس فكرته الغريبة العجيبة – بكتابة العربية بحروف لاتينية. (الكتاب مخزون في مكتبة الكونغريس، ولا بد لمن يرغب بالحصول عليه إلا أن يقوم بتصويره من هناك، وقد كلفت صديقًا، فأمسك بالكتاب، لكنه استثقل عملية التصوير، بسبب ضيق وقته).
هناك مئات الكتب صدرت في العراق وفي المغرب العربي لا أستطيع الحصول عليها. ولكني لدى زيارتي لمعارض الكتب قد أجد بعضها، وقد أخذت بدءًا من سنة 2010 بالتقليل من الشراء، لأن معظم ما أشتريه أجده في مكتبة أكاديمية القاسمي.
مع ذلك، فقد أعانني صديق عزيز في عمان هو الكاتب محمد المشايخ على شراء مجلات نزوى، أسوة بمجلة فصول، ومجلة إبداع، ومجلة عمّان، ومجلة شعر المصرية، ومجلة الآداب البيروتية، ومجلة أفكار، ومجلات علامات وجذور وعبقر الصادرة عن نادي جدة الثقافي، ومجلة دبي الثقافية، وعدد كبير آخر من المجلات، وهذه لا أحرص على اقتناء كل عدد منها، وإنما أشتري ما يهمني موضوعها.
حفظت أعداد الجديد (معظمها)، جميع أعداد الكرمل الجامعية، مواقف، المواكب، الشرق، الفجر الأدبي، الفجر الجديد، مشاوير، الأسوار. ولدي أعداد الكرمل الفلسطينية عدا ثلاثة، مجلة الناقد، الفجر الأدبي، البيادر (رام الله)، و البيادر التي كانت تصدر في تونس، وعدد كبير من أعداد الأقلام، المعرفة، الموقف الأدبي، وأعداد مجلة المهد الأردنية.
أذكر ذلك لأقول: هذه المجلات معظمها لا تكاد تجدها حتى لدى محرريها، ولا نكاد نجدها في مكتبات الجامعات. أقول ذلك بعد فحص ومساءلة.
مكتبتي تقع في غرفة طولها عشرة أمتار، وعرضها أربعة، وثمة مخزن بجوارها، وتحتل الكتب جزءًا من غرفة العمل حيث الحاسوب، وكلها تمتلئ برفوف الكتب من الأرض حتى السقف، قد تصل الكتب والعناوين إلى أكثر من خمسين ألف، والأهم أنها مرتبة حسب مواضيع، وحسب تفريعات،هنا المجلات المجلدة، وهنا الكتب التراثية وكتب نادرة ذات قيمة أدبية رفيعة، مجموعات روائية، وأخرى مسرحية عربية، وهناك المحليات. هناك الكتب المترجمة إلى العربية، وهنا الكتب باللغات الأجنبية، العبرية، الإنجليزية والألمانية.
كثيرًا ما يسألني الزائر لمكتبتي، وهو مندهش: هل قرأت كل هذه الكتب، يقول ذلك وهو يحرك يده.
أجيبه عادة: هذه المكتبة هي في الأساس مراجع ومصادر، وأنا أنتقي ما قد يلزمني في كتابتي وأبحاثي ودراستي وتدريسي، ولكن هناك كتبًا كثيرة جدًا قرأتها من الغلاف إلى الغلاف.
قد يَعجب البعض إذ قلت إن القرآن-الذي حفظت أكثر آياته غيبًا- هو أستاذي الأول في اللغة، فقد قرأته كله وأنا صغير اثنتي عشرة مرة. كتاب اكتشف فيه دائمًا بعدًا لغويًا وبيانيًا جديدًا، وأنا أعجب بكتاب محيي الدين درويش"إعراب القران الكريم وبيانه"، وقد عرفت عن المؤلف من شاعرنا أحمد دحبور، فعند لقائي به في منتزه عبلين حدثني عن محيي الدين وعن طرائفه.
وكان أستاذي الثاني المتنبي وديوان شعره، وأتمنى لو أنني أجد الوقت لحفظه أكثر، فقد حفظت ما يربو على خمسمائة بيت من قصائد له مختلفة، وهي رصيد لي يسعفني في أكثر من سياق أو مجال. لذا فإنك واجد في مكتبتي أربعة شروح لديوانه، وعشرات الدراسات حوله.
أصدقكم أنني في مكتبتي أحس بالعلماء والأدباء أحياء، يخاطبونني، وأخاطبهم، وما اصدق الشاعر الذي قال:
لنا جلساء ما نملّ حديثهم
ألبّـاء مأمونون غيبًا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
ورأيًا وتأديبًا ومجدًا وسؤددا
هذا الإحساس لازمني كذلك في أثناء كتابتي قصيدة"أغنية إلى الإنسان بابلو نيرودا" -(ديوان غداة العناق) قلت في وصف موته، وكأني أتخيل مكتبته:
من يتساقط
فرماد وحديد ولهيب من جمرات
في مكتبة ملأى بالأصوات
أما عن الإعارة، فقد أعرت الكثير ولم يرجع، ولكن هذا لا يمنعني من تزويد طلاب الماجستير والدكتوراة على وجه الخصوص بالمراجع المطلوبة، فهذه مسؤولية، وأنا مضطر إلى أن أقوم بها على المستوى الأخلاقي والاجتماعي. بعض طلاب الشهادة الأولى يزورونني، خاصة وقد جعلت غرفة الحاسوب بجانب المكتبة- غرفة ضيافة، وللمطالعة والتلخيص، وكنت أتمنى أن تكون لدي ماكنة تصوير ليصور من يشاء ما يشاء.
صدق الشاعر في صدر البيت التالي، ولا أوافق على عجزه:
فمعشوقي من الدنيا كتابي
فهل شاهدت معشوقًا يعار
أما انه معشوق فوالله هذا صحيح، فالكتاب بالنسبة لي أغلى من سرج السابح في نظر الفارس، وهو أعز مكان وخير جليس، كما ذهب أبو الطيب. واقرأ ما يقوله الجاحظ عن الكتاب في كتابه"الحيوان" حتى ترى مدى هذا الحب للسِّفر. وأقول اليوم: لقد كتبوا فدرسنا، ونكتب فيدرسون.
معدل قراءتي في اليوم خمس ساعات (ولا أقصد ساعات الحاسوب فهي كثيرة)، وهي تتضمن قراءة الصحف والمجلات الأدبية الكثيرة التي أكتفي بمعرفة مضامينها للإفادة منها مستقبلاً.
ويعلم الله أنني أكثر المتابعين للإصدارات المحلية، ويندر الكتاب المحلي الذي ليس له مكان في مكتبتي، ويندر الأديب الواعد الذي لا أعرفه إما عن طريق الورشة الأدبية التي أقمتها وشجعت فيها الكتابة الجديدة، وإما عن طريق الصحف.
الكتب هي غذائي ومتعتي ونزهتي.
أخاطب نفسي أحيانًا، وأقول: يا فاروق أنت فيك الكتاب، ومن قلمك الكتاب، وإليك الكتاب.
وأقول: لا أتصور أي عالم آخر أعيش فيه دون كتاب، حتى ولو كان جنة.
قدوة كبيرة انت …ساصبح يوم مثلك مكتنزة بالمعرفة ولو كانت ضئيلة