هزيمة
تاريخ النشر: 06/08/16 | 11:03عندما دخلتْ علينا قمرة السّفينة هي وصديقتها النّحيفة، جلستْ وهي تتفرس سحناتنا بلا خجل، من عينيها يطلّ مكر، وقالتْ لصديقتها بغنجِ العاهرات عُودي شوفي ذاك الشّابّ، راح يقدر يتلفُّ علينا، وبعد إلحاحٍ منها نزلتْ صديقتها تبحثُ عن ذاك الشّابّ على رصيفِ المرفأ، بعد دقائق وقبل أن تتحركَ السّفينة، عادتْ ومعها ذاك الشّابّ طويل القامة يرتدي بنطالا أزرق، يضم تحت إبطه جريدة، وبيده اليمنى موبايل، وباليد الأخرى قارورة نبيذ من الحجم المتوسط، بعد التحية، بدأ في وضع حاجياته على رفٍّ، وقال للفتاة التي تلوك اللبان وتطرطقه أحيانا، وتنفخه أحيانا أخرى لولا صديقتكِ لتهتَ.. تردَ عليه الفتاة الشقراء خفتُ عليكَ والسّفينة كما تعلم لا تنتظر أحداً، وأضافت من أي قُطرٍ أنتَ، كنتُ أظنّه زوجها، لكنّ ظني خاب الآن.
أجابَ الشّابُّ على سؤالِ الفتاةِ وقالَ أنا من هذه البلد، أنا من الجنوبِ ثمّ عادتْ الفتاة بمكرٍ وقالتْ حتى أنا قريبة من هناك، وهي مازالت مسترسلةً في الكلام، فتحتْ بابَ القمرة امرأة حنطية آية في الجمَال، أخذتْ مقعدها بيننا مباشرة بعد أنْ رتّبتْ أشياءها وشنطتها، وسلّمتْ علينا، وقالت للشّابِّ الأحمق الذي نسي حوارَه مع الفتاةِ الشّقراء ونسي نفسَه ونسينا، وهو يتأمّل حسنَ الوافدة، لكن سرعان ما خاب ظنه، لما سألتني بلهجتنا عن السّاعة، قلتُ لها دقائق ونغادرُ أوديسا فعادَ الشّابُّ لحوارِه مع الفتاة، وتركني في حوارٍ ممتع مع المرأةِ الغريبة، التي وضعتْ رجلاً على رجلٍ، حتى بان ساقها المرمري، وفي حركة لطيفة أخذتْ من شنطة يدها لوحُ شكولاتة وبدأتْ في توزيعها علينا، شكرتُ صنيعها ثم عادتْ لتسألني من جديدٍ عن السّاعة، فقلتُ لها الثالثة إلا ربع، شكرتني بعد أنْ برّرتْ سؤالها بكونِها لم تحقّق ساعتها على توقيت المغربِ، وسألتني عن وجهتي، فقلتُ لها وجهتي اثينا ومن غير أنْ اسألها أخبرتني بأنها للتو عادت من اسطنبول، وأنها ذاهبة لأثينا بلطف قلتُ لها علا سلامتك، لكن الفتاة الشّقراء قاطعتْ ابتسامتها لي وهي تسألُ الشّابّ الغريب من جديدٍ عن اسمه، فردّ عليها اسمي الداهي، ضحكت المرأةُ من غرابةِ شكله واسمه، فيما هو ظلّ مبتسماً كالأحمق، ثم عادتْ فسألته عن مهنته، هنا ولأهمية السؤال، عدّل من جلستِه ووضع رجلاً على رجلٍ حتى ظهرت جواربه المُتّسخة وأجابَ كل يومٍ ورزقه، لكنّ يوم الجمعة قد يصلُ رزقي إلى ألف روبل، من جوابه قد تحسبه تاجراً، لكن توقّعي سوف يذهبُ مذهب الماء في الرّمال، حين عادتْ فسألته الفتاة من جديدٍ عن صنعته، فردّ عليها ونفخَ صدره كالطاووس وضربْ بيده على صدرِه وقالَ صنعتي، صنعتي مشرطي، لم نفهم شيئا من جوابه، فقد زاد الأمر غموضا، الفتاة تجرأتْ أكثر وقالتْ وماذا تقصد بمشرطي، الكل ينصت له، بلع ريقه ومسح على ذقنه الحليق وفسّر لنا معنى الكلمة أقرأ الإنجيل على القبور وكل قبر وثمنه وكل آية وثمنها، وكل ليلة وثمنها، لم نتوقف عن الضحك طوال الرحلة ظلتْ المسافرة ذات العيون الزرق والشعر الأشقر المقصوص تنظرُ إليه وتعود للضحكِ من جديدـ، حتى صارتْ طفلةً بيننا ولم نتوقّف عن الضحك، إلا بعد أنْ نهضَ وكاد أنْ يخنق الفتاة، بعد أن أشبعها ضربا وركلاً كبطل في الملاكمة، كيف حصلَ هذا، قد كانا طوال الرحلة سمنا على عسلٍ كما تقول جارتنا؟ هذا هو الفصل الثاني من الحكاية، بعد أن عرفتْ الفتاة كل شيء عنه، خاصة دخله، سألته إن كان متزوجاً، من خلال هذا السؤال بدا واضحا أن الفتاةَ ترمي بشباكِها وحبالها عليه لتصطاده، الشّابُّ حينما سألته رنَّ موبايله، رفضَ في البداية أن يردّ، نظرَ إلى الأرقام عبر الشّاشة ثم أدخله جيبَ بنطاله، انقلبَ حاله، غابتْ أسارير وجهه دفعة واحدة، وتجمّد ماء وجهه، صار بلا ملامح ولا حسٍّ ولا نفس ولا حركة، ثم علا رنين الهاتف من جديد، ورغم ذلك الشّابُّ مصرٌّ على عدم الردّ، وخائف في نفس الوقت، وهو يكملُ الحوارَ بصوتٍ منخفض هذه المرة، وقالَ للفتاة بأنّه غير متزوج ويطمع في الحلال، وللنّاسِ فيما يعشقون مذاهب، وأنّه عشقها من أول نظرة، وأنه يبحثُ عن بنتِ الحلال وأنها نعم التربية ونعم الأصل، أخلاق وجمَال وبحركةٍ من يدِها عدّلتْ الفتاةُ الشّقراء شعرها ومسدت صدرها الناّفر وسوّت تنورتها على ركبتيها، وربما كانتْ تقولُ لنفسها لقد وقعَ الشّابُّ في شباكي، ولنْ أتركه إلا وهو من نصيبي، وكما قالتْ زوجتي كل فولة إلا ولها كيالها، الموبايل رنّ مرة أخرى وعلا صوته أكثر من ذي قبل، الفتاة الشّقراء ذي العينين اللامعتين، تتنفس الصعداء وتدنو منه أكثر حتى كادت تلتصق به، فيما المرأة المسافرة وهي تحدّثني أحيانا عن سحرِ استنبول وشوارعها وحورياتها.. تطلب من الغريب أن يضعَ حدا لهذا الرنين المزعج، فتدخلتْ الفتاة الحنطية من غيرتها وقالتْ للغريب ردّ من فضلك، لكي تُوقف هذا الصّداع.. الشّابُّ بيدٍ ترتعش كقصبة في مهب الريح، يفتح الخط ويلزم الصمتَ بين الموبايل وأذنه مسافة شبر، وعلا من سماعة الموبايل صوتُ مزلزل خشن لامرأةٍ تشتمُ الشّابُّ بفحش ما بعده فحش لماذا لا تردّ؟ معكَ عاهرة أخرى، لا تشبعُ من النّساء يا ولد ال.. الفتاة الشّقراء لمْ تستحمل هذا النّعت، فوقفتْ تشتمه وتلعنه، وتلعن اليوم الذي صادفته فيه، وضحكنا كما لم نضحك من قبل، الشّابّ وقد استفزه سبابُ المرأتين وزاده ملحا ضحكنا، فتوترتْ أعصابه، انتفضَ كالمسعور، طبق على عنقِ المرأة بيديه الخشنتين المرغبتين، ولولا وجودنا لكانتْ الفتاة الشّقراء في عداد الموتى، تدخل المسافرون وتدخلتْ الشرطة، وبصعوبة أنقذنا الفتاة من موتٍ محقق، والشرطة اقتادته عند أول محطة، كنتُ أسمعه يلعن نساء العالم، ويشتم نفسه لثقته بهن، كان سبابه أقوى من هدير محركات السّفينة لذلك ظل طوال الرّحلة يذكّرنا به، فضحكنا تارة ولزمنا الصّمتَ أسفا تارة أخرى.
عطا الله شاهين