عاد للدراسة … فأصبح طبيبًا

تاريخ النشر: 09/08/16 | 20:40

منذُ التحقْتُ بمهنة التدريس آمنتُ أنّني أؤدّي رسالةً ساميةً، ولا يقتصرُ عملي على حشوِ أدمغةِ الطلابِ بالمعلوماتِ والمعارف – مهما كانت قيّمةً وجديدة – التي تعلمتُها وحفظتُها من قبل!
آمنتُ أنّ جميعَ الطلابِ يستطيعون النجاحَ والتقدّمَ، كلُّ واحدٍ على قدرِ موهبتِه واجتهادِه.
آمنتُ بطلابي ووثقتُ بهم وبقدراتِهم، وكانت توقّعاتي منهم عاليةً، فأنا مِمَّن يحلو له تطبيقُ العبارةِ المشهورةِ: “النبوءةُ التي تحقّقُ ذاتَها”!
آمنتُ أنّ عليَّ أن أساعدَ طلابي على استثمارِ طاقاتِهم ومواهبِهم الكامنةِ، لذلك سعيتُ لإكسابِ طلابي مهاراتِ التعلّمِ الذاتيِّ، ومهاراتِ التفكيرِ العالي – من تحليلٍ واستنتاجٍ ونقدٍ ومقارنةٍ وإبداعٍ وو… – وعدمِ الاكتفاءِ بتمريرِ المعلوماتِ وتلقينِها!
كان شعاري الأثيرُ: “أعطِني صنّارةً وعلّمني الصيدَ بدلًا مِن إعطائي السمكَ!”.
انطلاقًا من هذا التوجّهِ، كنتُ أحرصُ على إشراكِ طلابي، أثناءَ الحصصِ، في النقاشِ والحوارِ وطرحِ الأسئلةِ وإبداءِ الآراءِ والمواقفِ الذاتيّةِ، كما كنتُ أكلّفُهم، وهم في الصفِّ التاسعِ، بكتابة البحوثِ والوظائفِ الكتابيّةِ حولَ موضوعاتٍ منبثقةٍ أو مرتبطةٍ بالموادِّ التي يتعلّمونَها، ليقوموا بالاستعانةِ بالمصادرِ والمراجعِ والرجوعِ إليها ، وتحديدِ ما يلائمُ البحثَ، والتلخيصِ والتحليلِ وإصدارِ الأحكام…
كنتُ أقترحُ عددًا من المواضيعِ للبحث ليختارَ كلُّ طالبٍ الموضوعَ الذي يروقُه ويتفاعلُ معه.
لم أكنْ أتوقّعُ منَ الطلابِ في هذه السنِّ المبكرةِ أن “يُبدعوا” أو يتوصّلوا إلى أحكامٍ ونتائجَ أصيلةٍ ودقيقةٍ في بحوثِهم، بل يكفي أنْ يراعُوا أصولَ كتابةِ البحوثِ من مقدّمةٍ وفصولٍ وإجمالٍ، وأن يُحسنوا استخدامَ المصادرِ والمراجعِ وتبويبَها في نهايةِ البحث، وأن يكونَ أسلوبُهم في الكتابةِ بلغةٍ واضحةٍ صحيحةٍ قدرَ الإمكانِ، وخاليةٍ منَ الأخطاءِ الإملائيّةِ، وأنْ يطرحوا بعضَ الأسئلةِ والآراءِ النابعةِ منَ البحث…
وفي هذا السياقِ، أذكرُ أنّ أحدَ طلابي الأذكياءِ المجتهدين – منَ الصفِّ التاسعِ – أعدَّ بحثًا حولَ “المعلّقات”، وقدّمَ لي هذا البحثَ مراعيًا قواعدَ إعدادِ البحوثِ، ومضمّنًا بحثَه استعراضًا لجميعِ المعلّقاتِ؛ أصحابِها، مطالعِها، أهمِّ موضوعاتِها وأغراضِها… وجاء البحثُ بلغةٍ جيّدةٍ سليمةٍ مع قائمةٍ بالمصادرِ والمراجع.
ولكن استحوذَ على اهتمامي وتقديري ما وردَ في خاتمةِ البحثِ من تساؤلٍ، فقد كتب الطالبُ ما يلي:
“بعدَ أنْ اطّلعتُ واستعرضتُ وحلّلتُ “المعلّقات” ووقفتُ على ما فيها من معانٍ وخصائصَ وبلاغةٍ وجمالٍ أتساءلُ: كيف يمكنُ أن نفسّرَ هذا المستوى الرفيعَ للمعلّقات بينما كانتِ الحياةُ في الجاهليّةِ عاديّةً وربّما متخلّفةً إذا قورِنت بما تحقّقَ في عصرِنا من تقدّمٍ وازدهار؟!”
أُعجبتُ بهذا البحثِ بشكلٍ خاصٍّ وقرّرتُ الاحتفاظَ به كنموذجٍ لبحثٍ جيّدٍ يمكنُ أنْ أعرضَه على الطلابِ لتشجيعِهم وتحفيزِهم على كتابةِ البحوث!
انتهى العامُ الدراسيُّ وجاءتِ العطلةُ لنعودَ بعدَها لأحضانِ المدرسة، ولكن يا للأسفِ أو يا للعجبِ!
الطالبُ الذي كتبَ ذلك البحثَ الجيّدَ لم يَعُدْ للمدرسة، وبعدَ الاستفسارِ اتّضحَ أنّه تركَ مدرستَنا وانتقلَ لمدرسةٍ عبريّةٍ مُعتقدًا – كما قيلَ – أنّه سيحقّقُ طموحَه هناك، ويضمنُ له مستقبلا أفضلَ!
مرّ عامٌ ونصف أو أكثرُ وبلغني أنّ الطالبَ لم يحالفْه النجاحُ في المدرسةِ العبريّةِ بسببِ صعوباتِ لغةِ التدريسِ العبريّةِ – فهيَ ليست لغةَ الأمّ – وبسببِ الأجواءِ المختلفةِ وصعوبةِ التكيّفِ لبيئةٍ جديدةٍ وأترابٍ جددٍ، وما حزّ في نفسي أنّ الطالبَ تسرّبَ منَ الدراسةِ وتوجّهَ للعمل كنادلٍ في أحدِ مطاعمِ المدينة …
وشاءتِ الظروفُ أنْ ألتقيَ بوالدةِ الطالبِ، فاستوقفتْني وناشدتْني أنْ أقنعَ ابنَها بالعودةِ لمقاعدِ الدراسةِ لئلا “يضيع مستقبله”!
وعدتُ الوالدةَ أنْ أحاولَ، وطلبتُ منها أنْ يزورَني ابنُها في نهايةِ الأسبوع عندَ عودتِه منَ المدينة، وبالفعلِ استجابَ الطالبُ لرغبةِ أمِّه ووصل إلى بيتِنا قبلَ صلاةِ العصر وهو يمشي بخطًى خجولةٍ متردّدةٍ، وكان وسيمًا، ووجهُه أملسُ أمردُ، وقد أطالَ شعرَ الرأسِ، لذلك لمّا همَّ بمصافحةِ والدي رفضَ ظانّا أنّه شابّةٌ في ريعانِ الشباب، ومصافحتُه ستبطلُ وضوءَه، فتداركتُ الأمرَ، وعرّفتُ والدي به، فقامَ بمصافحتِه والترحابِ به!
رحّبتُ ب”طالبي”، واستفسرتُ عن أحوالِه، وتدريجيًّا استعادَ هدوءَه وراحَ يحدّثُني بأسًى عن أوضاعِه، ممّا جعلني أنتقلُ للحديثِ عنِ التعليمِ والطلاب ونشاطاتِهم وبحوثِهم، فأخرجتُ بعضَ البحوثِ التي أحتفظُ بها، وكان بحثُه ضمنَ تلكَ البحوثِ، وأخذتُ أعرضُ عليه تلك البحوثَ وأتوقّفُ لأقرأَ أمامَه مقتطفاتٍ منها ليُبديَ رأيَه فيها، وأخيرًا وصلتُ لبحثِه – دونَ أنْ أخبرَه بذلك – وقرأتُ ما خطّه كاتبُ البحثِ من تساؤلٍ في نهايةِ البحث، ثم طلبتُ منه أن يُبديَ رأيَه في ذلك:
أجاب الطالبُ: يبدو أنّ كاتبَ البحثِ، كما أستنتجُ من تساؤله، طالبٌ ذكيٌّ وأتوقّعُ له مستقبلًا باهرًا!
أثلجتْ صدري الإجابةُ، فأخبرتُه أنّه هو كاتبُ البحث!
كم كانت دهشتُه عظيمةً عندما عرف ذلك، ولمحتُ قطراتٍ من الدمع تترقرقُ في عينيه وتنحدرُ على وجنتَيْه!
هنا تقدّمتُ وسألتُه: ألا ترغبُ في العودةِ لمقاعدِ الدراسةِ لتحقّقَ المستقبلَ الباهرَ الذي تتمنّاه؟
أجابني بلوعةٍ: أجلْ أجل، أرغبُ في العودةِ للمدرسة، ولكن كيفَ أعودُ لأحضانِ المدرسةِ مع بدايةِ العامِ القادمِ بعدَ انقطاعٍ دامَ عامَيْن عنها؟!
واستطرد يقول: لو عدتُ لأتعلّمَ في مدرسةِ بلدتِنا فسأكونُ في الصفِّ العاشرِ وأترابي، أبناءُ صفّي السابقِ، سيكونون في الصفّ الثاني عشرَ، وعندها سأشعرُ بالحرجِ والخجل!
احترمتُ وجهةَ نظرِه، وأخذنا نفكّرُ في حلٍّ ملائمٍ، وأخيرًا خطرتْ ببالنا فكرةُ أنْ يتوجّهَ للدراسة خارجَ بلدتِنا، فوقع الخيارُ على إحدى مدارسِنا العريقةِ في المثلّثِ الجنوبيِّ – حيثُ كنتُ قد تعلّمتُ فيها المرحلةَ الثانويّة – فكتبتُ رسالتيْن: واحدةً لمديرِ المدرسةِ الذي علّمني في الثانويّة، ورسالةً أخرى لرئيسِ البلديّة، وفي الرسالتين أشرتُ إلى فضلِ مدينتِهم ومدرستِهم في مسيرةِ حياتي ومستقبلي، وتخريجِها أفواجًا من الناجحين، ورجوتُهما قبولَ الطالبِ عندَهم، ولحسنِ الحظّ ولسعادة طالبي، قُبل في المدرسة الجديدةِ!
وهكذا عاد إلى مقاعدِ الدراسةِ ليتعلّمَ عندَهم في الفرعِ العلميِّ، ويُنهيَ المرحلةَ الثانويّةَ بنتائجَ باهرةٍ أهّلتْه للتسجيل في إحدى جامعاتِ البلاد لدراسةِ الطبّ، فقُبِل وأنهى دراستَه الجامعيَّةَ بنجاحٍ ليصبحَ طبيبًا يعالجُ المرضى بالعلمِ والإيمانِ والقيمِ الإنسانيّةِ السمحة!

*ملاحظة: القصّة حقيقيّة والشخصيّات والأماكن من الواقع!

د. محمود أبو فنه
dr.m7modabofne

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة