الهزيمة الفاصلة بين الحُلم والسياسة
تاريخ النشر: 13/08/16 | 15:47ستة أيام هي المدّة الزمنيّة التي يحتاجها الحُلم ليُصبح وهماً. ولتُخلّف الحرب انشقاقاً حاداً بين المُخيّلة والواقع، فتُصبح الأولى عمياء بينما يضيق الثاني بحدود النفعيّة المُعاقة، ويبتعدان كلٌ إلى عُزلته. أما شارة النهاية لتلك الحرب ــ حزيران/يونيو 1967 ــ فلوّحت بأن كل من يُفكّر بإنهاء إسرائيل وتحرير فلسطين يجازف بأجزاء من أرضه ثمناً. فقد أكّدت الهزيمة ما هو معروف أصلاً: أن العربدة الصهيونيّة التوسّعيّة طالت ــ ويُمكنها أن تطال ــ ما هو أبعد من فلسطين. وعليه، فإن قتال إسرائيل، تقول نتائج الحرب، ليس مجازفةً بما يمكن تعويضه من مال أو دمار عمرانيّ أو قدرات قتاليّة، ولا بدم الناس الذي تشتغل فيه المدائح حتى يُصبح اعتيادياً، إنما مجازفة بالجوهر الماديّ للدولة العربيّة: أرضها.
بعد تلك الحرب، تحوّلت فكرة “استحالة إسرائيل” من حُلمٍ ثوريّ يؤمن الناس به إلى فكرةٍ توحي بالمقامرة. وتفشّت في عقليّة السلطة نزعات الاستسلام والتسوية انطلاقاً من حسابات نفعيّة، رافقها قمع المجتمعات وحظر الحياة السياسيّة تعويضاً عن هشاشة الأنظمة التي فقدت أرضها. بهذا السياق، صار حُلم تحرير فلسطين ضرباً من الطوباويّة المنعزلة التي يؤمن الناس جميعهم بأنها حقّ دون أن يؤمنوا بأنه ممكن التحقيق. أما الشرائح التي تمسّكت بالاعتقاد بإن الانتصار على الصهيونيّة ممكن، فقد أسقطت عليهم هزيمة 1967 (وما
مقالات ذات صلة:
هزيمة 1967
1967: آلة السفر عبر الزمن
تبعها من هزائم) حالةً حوّلت شعارها قيمةً مطلقةً منفصلةً عن واقعٍ ديناميكيّ يمكنه، في وضعيات سياسيّة متباينة، أن يرجّح كفّة أخرى محتملة: أن يكون بقاء إسرائيل ممكناً!
في ما يتجاهله الشعار
هذا التعاطي مع مسألة “استحالة إسرائيل” يذكّر بجملةٍ تكررت في مئات المقالات الصحافيّة: “الكبار يموتون والصغار ينسون”، وهي جملة لا مصدر يؤكد صحّتها، لكنها تُستخدم تلقائياً في النصوص الفلسطينيّة بنوع من الشماتة والدلالة على “إخفاق المشروع الصهيوني”. الديباجة عديمة المعنى، بوسعها أن تنضمّ إلى عدد من المصطلحات المستخدمة بثقةٍ مفرطةٍ قلما تعتمد على علاقةٍ بالواقع. مصطلحات مثل “البقاء” أو “الصمود”، وغيرها من العبارات التي تعتبر الثبات (إن لم نقل الجمود) في حالةٍ معيّنةٍ إنجازاً بحدّ ذاته. عبارات تنسى أننا في بعض الأماكن قد فشلنا بالصمود، أو أن الصمود بحد ذاته كان شكلاً من أشكال الخسارة. وهي تنسى أن بعض كبارنا نسوا قبل الصغار، وأن صغارنا الذين لم ينسوا يموتون إعداماً قبل الكبار.
ليس تفريطاً في قيمة الصمود والبقاء في الوطن، ولا استخفافاً بأهميّة الذاكرة. لكنها محاولة لإلقاء الضوء على إشكاليّات اجتماعيّة وسياسيّة تتجاهلها الشعارات، بل إشكاليّات قد تنتج عن هذه الشعارات أيضاً. مثلاً، حيث يصبح “البقاء” غايةً فتُشرعن التخاذل مع الاستعمار أو على الأقل تَحول دون مواجهة الاستعمار من أجل الحفاظ على هذا البقاء. وهو ما يذكّر باللاجئ الذي دخل فلسطين زائراً بتأشيرة إسرائيليّة فسمّى نفسه “عائداً”. حين يُستخدَم الشعار منزوعاً عن سياقه وفارغاً من مضمونه، تنتج لدينا حالة ترفّع مكانة “البقاء”، فتُؤثِر من استكان فظلّ على من قاتَل وهُزِمْ، ويُصبح الأول “صامداً” بينما يُهجّر الآخر – وهذا داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 تحديداً، (الأقدم لجهة احتلالها وهي “قلب” إسرائيل)، ويُمكن اعتباره نهجا سياسيّا غالبا.
لكن هناك ما هو أكثر خطورة: تجاهل حقيقة أن بقاء الناس هذا، والذي نفتخر به، سببه في أحيانٍ كثيرة انعدام البدائل أمامهم وليس إرادتهم بالصمود. وهو تجاهل لا يصدر إلا عن أداتيّة (instrumentalization) للمجتمع في سبيل تحرير الأرض. وكذلك نتجاهل أن “البقاء” في مراتع الفقر فالجريمة التي نعيش فيها، بالكثافة السكّانيّة والحصار الجغرافي والاقتصادي والتأخر المروّع، هو صمود ماديّ فعلاً، لكنّه ليس وسيلة للتحرر السياسي نفسه.
أما مسألة النسيان والتذكّر فهي أكثر تركيباً. أولاً وقبل كلّ شيء، ما البطولة في أن تتذكّر مأساتك إن كانت إسرائيل حريصة على أن تمارسها وأن يشهدها العالم يومياً؟ ثانياً، ما هو مضمون هذه الذاكرة – هل هي ذاكرة نقديّة ومعرفيّة أم نوستالجيّة؟ ثالثاً، ما هي فعاليّة هذه الذاكرة؟ فيُمكن للإنسان أيضاً أن يتذكّر ويُسامح، أو يتذكّر فيُدرك عجزه ويستسلم. الحقيقة؟ إن آخر ما يشغل إسرائيل هو ذاكرتنا. ما يشغلها فعلاً هو شلّ أي إمكانيّة للمجتمع الفلسطيني بأن يحوّل هذه الذاكرة إلى دافعٍ سياسيّ للتخلّص من الاستعمار، وذلك من خلال ضرب التنظيم السياسي والاجتماعي، إفقاد الناس ثقتهم بالسياسة وأملهم بالنضال، ترسيخ الفقر كحالة أوليّة لا خروج منها إلا إن كان الخروج فردياً ومنفصلاً عن الجماعة، من خلال السوق الإسرائيلي والرضى الإسرائيلي لا رغماً عنه. لا يُزعج إسرائيل أن تبقى الذاكرة، ولا يزعجها التراث ولا حتّى زيارة القرى المهجّرة، يُمكن لمشروعٍ بحجم إسرائيل أن يتحمّل طقوساً من هذا النوع لطالما لا تشكّل أرضيّةً لتغيير سياسيّ فعليّ. وللدقة، فلا تقمع إسرائيل النشاط السياسي للفلسطينيين إلا حين يحمل خطاباً متحدياً لطبيعة النظام ومكوّنه الأساسيّ، النكبة. وينطبق هذا على داخل الخطّ الأخضر تماماً كما ينطبق على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
المنطق من وراء الغرابة
في شهر نيسان/ابريل من العام الجاري، نشرت وسائل الإعلام عن حادثة سياسيّة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن موضوعنا. لكنّها بالنسبة لحالة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر تحمل دلالات كثيرة. في اجتماعٍ عام بمناسبة عيد الفصح اليهودي، ناقش رئيس المعارضة الإسرائيليّة اسحاق هرتسوغ (المحسوب يسارياً في إسرائيل!) تراجع قوّة حزبه بين المصوّتين في إسرائيل. وقال أن سبب هذا التراجع هو أن حزبه يعطي الجمهور في إسرائيل “شعوراً خاطئاً بأننا نحبّ العرب”! بعد هذا التصريح، ردّ عليه وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت (وهو محسوب على أقصى اليمين): “في المدّة الأخيرة صار الهجوم على عرب إسرائيل صرعةً، وهنا أريد أن أقول أن عرب إسرائيل هم خُمس المواطنين في الدولة، نحن لا نكرههم، ولهم حقوق متساوية”.
تجاهلت الصحافة العربيّة ردّ بينيت الغريب، الذي ينضم إلى عدة تصريحات (بل وقرارات) سابقة مشابهة من غير المنطقيّ أن تصدر عن رجل قال في العام 2013: “لقد قتلت الكثير من العرب، ولا مشكلة في ذلك”. لتوضيح السياق والمنطق الذي يعتمده بينيت، سنستخدم تصريحا آخر مشابها صدر عن افيغدور ليبرمان، قال: “من يقف معنا من عرب إسرائيل فله نصف المُلك، أما من يقف ضدنا فنرفع الفأس ونقطع رأسه”.
تخرج هذه التصريحات، بغض النظر عن مكانها من الحقيقة، عن منطقٍ سياسيّ إسرائيليّ لا يُلغي إمكانيّة أن يبقى الفلسطيني على فلسطينيته لطالما لا تحمل هذه الهويّة أبعد من المركّب الفلولكلوريّ والانتماء الفرديّ.. أن لا تشكّل الهويّة الفلسطينيّة رؤيا أو مشروعاً سياسياً. منطق يصدر عنه استعداد لتطوير البلدات الفلسطينية في النقب (مثلاً) لكنّه يشترط هذا بالتنازل عن دعاوى الملكيّة التاريخيّة للبدو على أراضيهم التي صودرت منهم في النكبة وبعدها. يُمكن للإنسان الفلسطينيّ ألا يُقمَع ولا يخسر كل ما لديه في حال رضي أن يتنازل عن حقّه بالنضال ضد إسرائيل ككيان قائم بحدّ ذاته وليس كسياسات وممارسات متفرّقة. منطق يقبل الفلسطيني إذا ما فُصل وجوده السياسي عن حقّه التاريخيّ وذاكرة مأساته. هذه حالة مركّبة فعلاً لا تعتمد على النسيان (بمعنى ضرب ذاكرة المأساة وبالتالي المخيّلة التحرّريّة)، ولا تعتمد على الحظر الكامل عن الحيّز السياسيّ العام (بمعنى منع ممارسة السياسة كاشتغال في ظروف الواقع)، لكنّها تعتمد على الفصل التام فيما بينهما. وهو فخٌ مغر للفلسطينيين مُريدي التسوية، ولمؤيّدي تقسيم فلسطين بحلّ الدولتين بدلاً من إحلال العدالة على كلّ أرضها. هذا منطق إسرائيليّ غير جديد، لكنّه آخذ بالمراكمة، وهو خطير. وآخر ما قد يفيد في التصدي لهذا المنطق هو التمسّك بالمفردات (terminologie ) الاوتوماتيكيّة دون نقدها. ومن هذه النقطة تحديداً، يُمكن العودة إلى مسألة “استحالة اسرائيل”، فنقاط التشابه كثيرة. إذ أن نتائج هزيمة 1967 التي حوّلت الحلم وهماً، وفلسطين مقامرةً، وفصلت توق المخيّلة التحرّرية عن إدوات الواقع السياسيّ، تلتقي مع منطقٍ إسرائيليّ بات محسوساً ومن العبث تجاهله. منطق يمنع أي انسجام بين المخيّلة والذاكرة والعاطفة من جهة، وإمكانيات الفعل السياسي من جهةٍ أخرى.
في تحدّي مقولة “الاستحالة”
تماماً كما طرحنا أسئلة حول مفهوميّ “البقاء” و “الصمود”، يُمكن لنا طرح أسئلة حول “استحالة إسرائيل”. ما الإثبات على أن إسرائيل، بالذات لأنها واعية لنوايا إسقاطها، لا يمكنها ان تستمر إلى “الأبد”؟ صحيح أن كل مقوّماتها الايديولوجيّة الأساسيّة آخذة بالاهتزاز، وصحيح أن ملامحها التاريخيّة التي برّرت للعالم وجودها آخذة بالإمحاء. لكن العالم هذا، وبالأحرى الغرب، ألا يتغيّر؟ وألا تنسجم التغييرات (والتي توصف كأنها خطوات انهيار الصهيونيّة) في المجتمع وفي الاقتصاد الإسرائيلي مع التغييرات الحاصلة في العالم الغربيّ، إن على صعيد اشتداد التطرّف الاجتماعي أو شرعنة اليمين، أو هيمنة اقتصاد التكنولوجيا، أو تراجع النماذج الاشتراكيّة وتفشّي أعنف أشكال النيوليبراليّة.
هذه تغيّرات، إلى جانب كونها تنسجم مع ما يتغيّر في العالم، تحفر عميقاً في بُنية الجيش وفي بُنية النظام السياسي. وهو نظام ديناميكيّ الطابع لا دستور له ولا نظريّات مؤسسة في الفلسفة السياسيّة. فالطبقات اليهوديّة الفقيرة والمعدمة، والتي يُتوقّع أن تكون عاملاً من عوامل سقوط النظام الصهيونيّ، لا تجد منفذاً للخروج من حالتها إلا من خلال الانخراط بقوى الجيش والأمن التي هجرها اليهود الأوروبيّون مع ظهور طبقات عسكريّة جديدة مرتبطة بتطوير الأسلحة وتكنولوجيا القتال والحرب المحوسبة والتجسس الالكتروني.. هذا غير المخابرات وسلاح الطيران التي يحتكرها اليهود الأوروبيون لأنفسهم طبعاً. لذلك، فإن هذه الشرائح المستضعَفة لا تنتقل إلا لأقصى يمين الخارطة السياسيّة، إذ أنها هي التي تواجه الفلسطينيّين يومياً عند الحواجز والسجون ونقاط الاشتباك، فيزيد دعمها لقطبٍ يمينيّ لا يكتفي بحكم الدولة، إنما يفكّر ملياً وجدياً بشأن استحالتها ويسعى لتجاوز ذلك وحلّه، ويتأسس على نظريّة (نتنياهو يكررها دائماً) “أن نعيش للأبد على حدّ السيف”، وهي بنظره تتطلّب إعادة هيكلة لنظام الحكم ليتحوّل نظاماً يعتمد على حزبين اثنين فقط “يمين ويسار”، لما يوفّره هذا النظام من متانة في الحكم بمواجهة الاهتزازات والضغوط السياسيّة.
ليس بالإيمان وحده
ليس الغرض من هذه المطالعة الإحباط أو الحمل على اليأس، إنما هي تشير إلى ضرورة نقد الشعارات التي نؤمن بها من أجل ربطها بواقع العمل السياسي. دون ذلك، تفقد المخيّلة رسنها فلا تبني أملاً ولا انتصاراً. هذه الأزمة التي نشأت بدايةً في هزيمة 1967، واستمرت بأشكال وأطوار وأحداث عدّة، يجب تجاوزها فكرياً إلى جانب تجاوزها تنظيمياً، ويحتاج تجاوزها أن نخرج من نقطة انطلاق واحدة: جميع احتمالات السياسة مفتوحة، والإيمان باستحالة إسرائيل لا يمكنه وحده أن يحفظ فلسطين إلى الأبد.
مجد كيال – حيفا – السفير