اقتصاديات التعليم
تاريخ النشر: 24/11/13 | 2:18التعليم أصبح ركيزة أساسية لبناء الإنسان، والذي بدوره يمثّل هدف أية آثار اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، فالتعليم لم يعد خدمة اجتماعية فحسب، بل أصبح أحد ميادين الاستثمار المهمة الحقيقية.
ولذلك نرى أن علماء الاقتصاد توجهوا بالبحث والدراسة نحو قطاع التربية والتعليم، وظهرت فكرتا "رأس المال البشري" و "الاستثمار في التعليم" واكتسبت الفكرتان أهمية بالغة من قِبل الباحثين، نظراً لدورهما الكبير في تحقيق الآثار الاقتصادية الإيجابية في المجتمع.
هذا ولم يغفل الإسلام عن الحثّ والحضّ على طلب العلم، بل اعتبره فرضاً على كل مسلم ومسلمة، قال تعالى في محكم التنزيل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)(سورة الزمر آية: 9) وهناك العديد من الآيات الكريمة الحاثّة على العلم والتعليم، وكذلك نجد العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحضّ على العلم وطلبه، فمن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة(سنن ابن ماجة).
وعن أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:- مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء (سنن ابن ماجة).
وكذلك لو أمعنا في حِكم ودرر الإمام الشافعي (رحمه الله) لوجدنا أنه يحضّ على العلم ويحثّ عليه، حيث قال : "مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ، ومن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم".
وكذلك أيضاً لو أمعنا النظر في الكتابات الاقتصادية القديمة، لوجدنا أن "مالتوس" (صاحب النظرية المعروفة في العلاقة بين الموارد والسكان) أشار إلى أن للتعليم أثراً في طريقة التفكير وفي السلوك الاقتصادي، كالادخار والاستهلاك، ولوجدنا كذلك الاقتصادي المعروف الفرد مارشال (من أوائل الذين أبرزوا القيمة الاقتصادية للتعليم) في كتابه أصول الاقتصاد، قد أكد أن أكثر أنواع الاستثمارات الرأسمالية قيمة، هو ما يُستثمر في البشر، ورأى أن العامل بحاجة إلى التعليم العام إلى جانب التعليم المهني، لأن التعليم يجعل الإنسان أكثر فطنة، وبذلك يصبح موطناً للثقة في عمله اليومي، ويشير إلى أن "أثمن ضروب رأس المال هو ما يستثمر في البشر"، كذلك الاقتصادي (بيجو) الذي اعتبر التعليم استثماراً ينتج معدل مردود في الإنتاج الإضافي يزيد كثيراً عن المعدل الاعتيادي للفائدة على رأس المال المستثمر في المكائن والمعدات، وكذلك نجد العديد من الباحثين ممن تتطرق إلى إبراز اقتصاديات التعليم في كتاباتهم مثل آدم سميث وجونسون وفيشر..
فهذا الاهتمام بالعلم والتعليم لم يأتِ عبثاً، بل لأنّ التعليم يُسهمُ في تكوين رأس المال البشري، وتكوين رأس المال البشري وتنميته عملية أساسية في كل تنمية اقتصادية، ولا يمكن أن تتم إلا بها، حيث يُعد التعليم من وجهة النظر الاقتصادية سلعة استثمارية واستهلاكية، خاصة وعامة في الوقت نفسه، فهو سلعة استهلاكية خاصة لمنافع الفرد المباشرة، حيث يشبع حاجة أصيلة لدى الفرد في المعرفة، وسلعة استثمارية خاصة، لأنها تعود على الفرد بزيادة في الدخل عن طريق تحسن قدرة الإنتاجية، وهو سلعة عامة، نظراً لما له من آثار اقتصادية ترجع بالفائدة على المجتمع بأسره، لذا لا يترك عادة لاقتصاد السوق.
ويسهم التعليم في كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، حيث نجد أن للتعليم أثراً واضحاً في الصحة، وأنه يؤدي إلى تغيير الأنماط الغذائية والمعيشية للفرد، ويحسّن حالته الصحية ويحقق أسباب زيادة العمر، الأمر الذي يزيد من مشاركته في العملية الإنتاجية. وكذلك نجد أثراً للتعليم في عدالة توزيع الدخل، إذ يؤدي ارتفاع المستوى التعليمي إلى ارتفاع مستوى الدخل، والفئة المتعلمة من الناس لا يمكن عادة أن تعيش فقيرة، لأن الإنسان بالعلم والمعرفة والوعي، يستطيع أن يسخر كل القوى الطبيعية ومصادرها لتوفير حياة كريمة له.
ويُشكل التعليم أهمية واضحة في اقتصاديات التعليم لدى المجتمعات ككل، ويظهر الإنفاق المستمر، الواسع، المتزايد عليه من قِبل المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء، ومن أبرز هذه الآثار:
أ- أن التعليم بالنسبة للفرد، يتمثل بالمنفعة التي تتحقق للفرد نتيجة تلبيته لرغباته وحاجاته من خلال التعليم كونه استهلاكاً، حيث يلبي التعليم هذه الرغبات عن طريق تزويده بالمعلومات التي تتيح له تحقيق وتطوير درجة وعيه وثقافته.
ب- الأثر الاقتصادي للتعليم بالنسبة للفرد يمكن ان يُحقق من خلال التعليم كونه استثمارا في الإنسان، ومن ثم فإن الاستثمار في الإنسان من خلال التعليم، من قبل المؤسسات الرسمية والخاصة، ينجم عنه زيادة معلومات الفرد ومهارته بالشكل الذي تزيد معه قدرته الإنتاجية وتزيد كفاءته في أداء عمله، وبالتالي يحقق الفرد إنتاجاً ودخلاً أكبر له.
ج- الآثار الاقتصادية للتعليم يمكن أن تكون آثاراً مباشرةً، كزيادة إنتاجية وإنتاج المتعلم نتيجة تعليمه، وهذا بحد ذاته يمثل عائدا وأثراً اقتصاديا مباشرا، وهناك أثر اقتصادي غير مباشر للتعليم، كإسهامه في تحسين المستوى الصحي للمتعلم نتيجة تعليمه، وكذلك إسهام تحسين مستواه الصحي في زيادة إنتاجية وإنتاج المتعلم، كما وهناك أثر اقتصادي آخر للتعليم وهو تشغيل العديد من الأساتذة والكوادر الأكفاء، في المؤسسات والمدارس التعليمية التي ترعاها وتدعمها المؤسسات والجمعيات الخيرية، حيث تقوم هذه المدارس بإيجاد أماكن عمل ومجالات رزق للمعلمين والأساتذة في المجتمع، مما يدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام.