تداعيات الحراك السوري على العلاقات التركية الروسية

تاريخ النشر: 15/08/16 | 5:07

ليس من مبالغة القول إنّ طبيعة العلاقات التركية الروسية يغلب عليها الطابع المميز لمسار العلاقات الدولية، ذلك المسار الذي يتراوح ما بين التقارب والتباعد على مدار التاريخ، وإن رجحت كفة أحدهما على الآخر لتصبح الطابع الغالب في مسار علاقات البلدين، فتارة تكون الطبيعة التقاربية هي السمة الغالبة لعلاقات البلدين، وتارة أخرى تكون الطبيعة الصراعية هي السمة المميزة لهما، في حين تظل السمتان على مستوى متقارب وهو ما ينطبق على مسار العلاقات التركية الروسية، فإذا كان صحيحًا أن الطرفين يحرصان على تنمية علاقاتهما والحفاظ على مستوى معين من التقارب حماية لمصالحهما المتبادلة، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن التاريخ شهد لحظات فارقة في مسار علاقاتهما وإن لم تدم طويلًا، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء ثلاثة عوامل: الأول يرتبط بتوجهات القيادة السياسية في الدولتين. والثاني يتعلق بحجم الارتباطات الدولية والإقليمية لكل طرف. والثالث يتحدد في ضوء طبيعة القضايا والمشكلات الخلافية بينهما.

وفي ضوء ما سبق، تأتي هذه الدراسة لتكشف عن مسار العلاقات التركية الروسية في ضوء الخبرة السابقة والتحولات والتغيرات الحادثة على المستوى الدولي بصفة عامة وعلى المستوى الإقليمي على وجه التحديد، حيث تمر العلاقات بين الجانبين اليوم بمرحلة تغيير واضحة الملامح، قد تظهر آثارها تباعًا لخلق صيغة عصرية لإدارة هذه العلاقة التي ربما تكون علاقة واعدة وجاذبة لعلاقات تعاونية أخرى في تلك المنطقة التي يسودها حراك جاهز لأخذ أي اتجاه. ليس من مبالغة القول إن طبيعة الموقع الجغرافي لتركيا هي التي حددت عبر التاريخ شكل ومسار علاقاتها مع دول الجوار، وهو ما ينطبق بصورة جلية على العلاقات التركية الروسية التي شهدت خطوات للتقارب وأخرى للتباعد طبقًا لتضارب المصالح والرؤى بينهما. فإذا كان صحيحًا أن العلاقات بين البلدين من الأهمية بمكان أن يحرص الطرفان على تنميتها والحفاظ عليها. فعلى مدار التاريخ الطويل للدولتين مرت علاقاتهما بموجات من الصعود والهبوط ارتباطًا بتوجهات القيادة السياسية في الدولتين من ناحية، وبالارتباطات الدولية والإقليمية لكل طرف من ناحية أخرى، وبطبيعة القضايا والمشكلات الخلافية بينهما من ناحية ثالثة، فيذكر أن هناك ميراثًا تاريخيًّا من الخلافات بين البلدين،
منها: الخلافات حول المرور في مضيق البوسفور، والتّنافس على نقل بترول آسيا الوسطى، والموقف من قضية النزاع حول منطقة “ناغورنو كاراباخ”، بين أذربيجان وأرمينيا، والقضية القبرصية، والدعم الروسي لليونان، ومشكلة الشيشان والموقف التركي منها. واليوم تمر العلاقات بين الجانبين بمرحلة تغيير واضحة الملامح، قد تظهر آثارها تباعًا لخلق صيغة عصرية لإدارة هذه العلاقة التي ربما تكون علاقة واعدة وجاذبة لعلاقات تعاونية أخرى في تلك المنطقة التي يسودها حراك جاهز لأخذ أي اتجاه.
يمثل الجانب الاقتصادي حجر الزاوية في مسار التقارب التركي الروسي، حيث تمثل تركيا سابع أكبر شريك تجاري لروسيا، وتسبق معظم أعضاء مجموعة “البريكس” لأكبر الأسواق النامية في العالم، كما أنها الوجهة الأولى للسياح الروس، وثاني أكبر أسواق التصدير بعد ألمانيا بالنسبة لشركة غاز بروم المملوكة للدولة الروسية. على الجانب الآخر، تشغل روسيا المركز الثاني بين الشركاء التجاريين الرئيسيين لتركيا. كما نمت التجارة بين روسيا وتركيا إلى 25.6 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من عام 2012، بزيادة قدرها أكثر من 14 في المائة عن العام السابق، ليصل حجم التبادل التجاري في نهاية العام الماضي إلى 35 مليار دولار طبقًا للتقديرات الأولية الرسمية.
وفي هذا الخصوص، تبرز مجالات التعاون بين البلدين فيما يلي:

1- التعاون في مجال الطاقة، حيث تعتبر روسيا أهم مورد للغاز الطبيعي لتركيا. كما شاركت تركيا بنجاح في المفاوضات حول بناء أنبوب غاز “ساوث ستريم” الذي يمتد من روسيا إلى أوروبا تحت البحر الأسود. فعلى سبيل المثال، تعتمد شركة “بوتاس” التركية على الغاز الروسي، بواقع6 مليارات متر مكعّب من الغاز سنويًّا، حتى ديسمبر عام 2011، موعد انتهاء الاتفاقية الموقعة بين البلدين منذ عام 1986م، إلا أنه سرعان ما تجدّد هذا الاتفاق استنادًا إلى تحذير وزير الطاقة التركي ” تانر يلديز” من إمكانية إعادة النظر في هذه الاتفاقية في حال عدم إقدام روسيا على تخفيض سعر الغاز. وهو ما أشار إليه “فلاديمير بوتين” خلال لقائه مع وزير الطاقة التركي في 28 ديسمبر،
وذلك بقوله: “بودي التوجه إلى الحكومة التركية بالشكر الجزيل، على قرار منح ترخيص لشركة غاز بروم بإنشاء خط أنبوب الغاز (السيل الجنوبي) في المنطقة التركية الاقتصادية… وقد أكد المسؤولون أن التصدير سيبدأ في عام 2015 …إننا اتفقنا على توريد الغاز إلى تركيا على المدى البعيد، حتى 2021 و2025″. كما يمتد التعاون كذلك إلى مجال الطاقة الكهربائية والتي تعد من أكثر مجالات التعاون الاقتصادي التجاري بين البلدين، حيث تشارك مؤسسة ” تكنوستروي إكسبورت” الروسية للتجارة الخارجية في إنشاء السد والمحطة الكهرذرية “ديرينر” بقدرة 670 ميغاواط ، وذلك في مقاطعة أرتفين التركية. ويذكر أنه في 29 ديسمبر عام 2008 حصلت شركة “إنتر راو ي إس – تي جي آر” التي تم تأسيسها في تركيا على ترخيص باستيراد الطاقة الكهربائية من روسيا عبر أراضي جورجيا.
ومن الجدير بالإشارة أن التعاون في مجال الطاقة امتد ليشمل الطاقة النووية، حيث تكشف البيانات الواردة من البلدين عن اتجاه روسيا للمشاركة في بناء أول محطة نووية “أكاو” في تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة “مرسين” جنوب تركيا، حيث وافقت روسيا على الإسهام في عملية بناء محطة للطاقة النووية والتي يقوم تصميمها على إنشاء 4 مفاعلات بقدرة 1.200 ميغاوات، ومن المقرر أن تدخل الخدمة في عام 2019. ويذكر أن تكلفة المشروع تقدر بحوالي20 مليار دولار ممولة بالكامل من قبل شركة تابعة لمجموعة “روساتوم”، الحكومية الروسية للطاقة النووية، مع إرسال الوقود المستنفد إلى روسيا لإعادة المعالجة. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل سبقه قيام شركتَي “أتوم ستروي إكسبورت” الروسية و”أرغ إنشاءات تجارة وصناعة” التركية في 11 مايو عام 2007، بتوقيع مذكرة تفاهم بينهما حول إقامة التعاون الإستراتيجي في تسويق تكنولوجيات السلع والمعدات والخدمات الخاصة بصناعة الطاقة الذرية في تركيا.
2- تنامي العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهو ما برز في عدة مؤشرات، منها:

– حجم الاستثمارات المتبادلة، ففي الوقت الذي تبلغ في الاستثمارات التركية في روسيا نحو 1.5 مليار دولار، يتراوح حجم الاستثمارات الروسية في تركيا 200 – 300 مليون دولار.
– يعكس حجم التبادل التجاري بين البلدين الأهمية التي يوليها الطرفان لبعضهما البعض، حيث يزداد حجم التبادل السلعي بين البلدين من سنة إلى أخرى. وقد بلغ الحجم عام 2004 قيمة 11 مليار دولار. أما في عام 2008 فبلغ قيمة قياسية قدرها 33.8 مليار دولار. وتشير وزارة التنمية الاقتصادية الروسية إلى أن تطور الأزمة الاقتصادية العالمية أدّى إلى انخفاض حجم التبادل السلعي بين روسيا وتركيا حيث انخفض هذا المؤشر في الفترة ما بين يناير ومايو حتى قيمة 6,7 مليار دولار، مما يعد أقل بنسبة 51% بالمقارنة مع الفترة المماثلة في عام 2008. ويسعى البلدان إلى تطوير حجم التبادل التجاري بينهما ليصل مستواه في الأعوام القادمة إلى مئة مليار دولار بدلًا من 40 مليار، وبناء مصارف روسية في أنقرة ، وتطوير خطوط النفط والغاز الآتية من روسيا نحو أوروبا عن طريق تركيا والتي تعتمد على البترول والغاز الروسيين بالدرجة الأولى
فالشركات التركية التي تعمل في روسيا تصل إلى أكثر من 140 ألف شركة، ويصل حجم زوار تركيا من السواح الروس إلى أكثر من 5 ملايين سائح سنويًّا. ويذكر أن الشراكة الاقتصادية بين البلدين تعززت خلال زيارة بوتين الأخيرة لتركيا، إذ اصطحب وفدًا ضخمًا من رجال الأعمال، ووقع الجانبان 11 اتفاقية تعاون مشترك في مختلف المجالات الاقتصادية والسياحية والثقافية، بداية من افتتاح بيوت ثقافية في كلا البلدين مرورًا باتفاقية إلغاء تأشيرة الدخول بينهما، واتفاقيات في القطاع المصرفي والصناعي والزراعي، وصولًا إلى مشروع إنشاء محطة للطاقة النووية كما سبقت الإشارة.
– تأسيس عدد من المؤسسات المعنية، فقد تم في عام 1992 تشكيل اللجنة الحكومية المختلطة الخاصة بالتعاون التجاري الاقتصادي والعلمي والتقني. وتعمل في إطار اللجنة مجموعات العمل الخمس. وتعتبر اللجنة هيئة حكومية ثنائية تتحمل المسؤولية عن مسائل التعامل الاقتصادي. وتم في عام 1991 تأسيس مجلس الأعمال التركي الروسي. وفي عام 2004 أسس مجلس الأعمال الروسي التركي. ويساهم المجلسان في إقامة علاقات العمل المباشرة بين الشركات والأقاليم الروسية والتركية.
– التعاون في قطاع الإنشاءات، حيث يعمل في روسيا حاليًّا أكثر من 150 شركة إنشائية تركية، أنجزت منذ أواخر الثمانينات من القرن المنصرم وحتى اليوم نحو 800 مشروع يبلغ الحجم الإجمالي للصفقات المعقودة بصددها قيمة 26 مليار دولار. وكانت قد عقدت الشركات التركية في عام 2007 صفقات بمبلغ قدره 4.3 مليار دولار. وتقوم الشركات الروسية أيضًا بإنشاء مشاريع في تركيا. وفي الإطار ذاته، وقع مجمع الصلب والحديد “ماغنيتوغورسكي” الروسي والشركة التركية الكبرى المتخصصة في استيراد الفحم “أتاكاش غروب” بروتوكولًا حول إنشاء مجمع الصلب والحديد في تركيا الذي تبلغ إنتاجيته نحو 2.6 مليون طن من المنتوجات الحديدية سنويًّا. وتقدر قيمة الصفقة بمبلغ 1.1 مليار دولار.
– التعاون النشط بين البلدين في مجال بناء السفن شهد تطورًا كبيرًا، ففي أعوام 2006 – 2008، قام معمل بناء السفن ” كراسنوي سورموفو”الروسي ببناء سفينة سياحية وسفينتي شحن وناقلة بحرية للجانب التركي، تتميز بمواصفات بيئية ممتازة. وتم في عام 2007 إبرام عقد خاص بقيام الجانب الروسي بإنشاء 10 ناقلات بحرية بحمولة 6.9 ألف طن لحساب الجانب التركي.
3- توقيع عدد من الاتفاقات المتبادلة يتجاوز عددها 60 اتفاقية تخص التعاون في المجالات المختلفة، أبرزها: معاهدة أسس العلاقات (عام 1992)، وخطة الأعمال الخاصة بتطوير التعاون بين روسيا وتركيا في القارة الأوراسية (عام 2001)، واتفاقية التعاون العسكري (عام 2002)، والبيان السياسي المشترك حول تعميق الصداقة والشراكة (عام 2004). البروتوكول الخاص بشأن دخول السلع والخدمات الروسية للأسواق التركية في إطار عملية انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية الذي تم توقيعه يوم 19 إبريل عام 2005 في أنقرة، ومثّل إنجازًا مهمًّا في تطور العلاقات الروسية التركية. اتفاقية الإلغاء المتبادل لتأشيرات السفر في 12 مايو عام 2010، حيث يسري مفعول الاتفاقية على مواطني البلدين الذين يفدون إلى البلد المضيف لمدة أقصاها 30 يومًا بمن فيهم السياح.
لم يقتصر التقارب بين البلدين في المجالات الاقتصادية والتجارية فحسب، بل امتد إلى القضايا السياسية، وهو ما برز في ملمحين، هما:
1- تبادل الزيارات بين المسئولين في البلدين خلال العقد المنصرم، منها:
– زيارة وزير الخارجية التركي وقتذاك “عبد الله غول” موسكو من 23 إلى 26 فبراير عام 2004.
– زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تركيا خلال يومي 5 و6 نوفمبر 2004.
– مشاركة الرئيس الروسي “بوتين” في عام 2005 في مراسم افتتاح خط أنابيب الغاز “السيل الأزرق”.
– مشاركة الرئيس الروسي “بوتين” في القمة التاسعة لمنظمة التعاون الاقتصادي بين دول البحر الأسود التي انعقدت في مدينة سمسون التركية في عام 2007.
– زيارة الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر روسيا في الفترة من 28 يونيو إلى 30 يونيو عام 2006.
– تم في يوم 5 يوليو عام 2008 اللقاء بين الرئيس الروسي دميتري مدفيديف والرئيس التركي عبد الله غول، وذلك في إطار الاحتفالات بمناسبة حلول الذكرى العاشرة لمدينة أستانا الكازاخستانية.
– زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان روسيا عدة مرات، أبرزها في 13 أغسطس عام 2008، حيث تقدم بمبادرة إنشاء “منطقة الاستقرار والتعاون في القوقاز”.
– زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنقرة في 6 أغسطس 2009. وتوقيع الطرفين خلالها عددًا من الوثائق الرامية إلى تطوير التعاون بينهما في مجالات النفط والغاز والطاقة النووية، ومن بينها اتفاقية حول التعاون في المجال النووي، وبروتوكول سيسمح بمدّ خط “السيل الجنوبي” لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر مياه تركيا الإقليمية في البحر الأسود، وبتنفيذ مشروع مدّ خط أنابيب الغاز “السيل الأزرق-2″، إضافة إلى بروتوكولين حول التعاون في مجال مد خط النفط “سامسون – جيهان” واتفاقية حول بناء أول محطة كهرذرية على الأراضي التركية من قبل الخبراء الروس.
– زيارة الرئيس الروسي “دميتري مدفيديف” أنقرة في 12 مايو 2010، وتم خلالها إنشاء مجلس للتعاون على مستوى قيادة البلدين سيقوم برسم إستراتيجية تطوير العلاقات بينهما وتنسيق تطبيق المشاريع الكبرى في مجال التعاون السياسي، والتجاري، والاقتصادي، والثقافي، والإنساني. فضلًا عن توقيع 17 اتفاقية، منها اتفاقيات التعاون في مجال الطاقة وبناء محطة كهرذرية وفي مجال الزراعة، وأيضًا اتفاقية لإلغاء تأشيرات السفر بين البلدين.
2- على رغم أن مناطق مثل القوقاز وآسيا الوسطى أصبحت بطبيعة الحال مجالًا للتنافس بين روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن البلدين تمكنا من إيجاد أرضية مشتركة لتطوير الفرص المشتركة، خاصة منذ ولاية الرئيس فلاديمير بوتين الأولى في مارس 2000، وتولي حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة في عام 2002، حيث اتجهت العلاقات الروسية – التركية نحو مرحلة أكثر واقعية من شأنها أن تركز أساسًا على التعاون بدلًا من الصراع، ولذلك تم توقيع “خطة العمل المشتركة للتعاون في أوراسيا بين البلدين في 16 نوفمبر2001، وهي الوثيقة الرسمية الأولى التي ذكرت بناء “شراكة متعددة الأبعاد” بينهما.
على الرغم من هذا التقارب الروسي التركي الذي عبر عنه اجتماعات إسطنبول بين الروسي “فلاديمير بوتين” والتركي رجب طيب أردوغان والتي بلغ عددها 30 اجتماعًا خلال السنوات الثماني الماضية. حيث شهد العام الماضي فقط لقاءين جمعهما، إلا أن ثمة عددًا من النقاط الخلافية والعقبات التي قد تحول دون مزيد من التقارب بينهما،

وتتركز في مجموعة من القضايا المحورية، منها:
1- الأزمة السورية، يتباين الموقفان الروسي والتركي حول الأزمة السورية، ففي الوقت الذي أعلنت فيه أنقرة دعمها للمعارضة السورية المسلحة وهو ما بدا واضحًا في دعوة الأسد للتنحي، والسماح لقيادة الجيش السوري الحرّ بالتمركز في مخيم اللاجئين. فضلًا عن دعوة أنقرة حلف شمال الأطلسي لنشر صواريخ “باترىوت” في تركيا للمرة الأولى منذ عشر سنوات تقريبًا بحجة أنه إجراء دفاعي على خلفية الاشتباكات بين الثوار والقوات الحكومية بالقرب من الحدود التركية، خاصة بعد إطلاق القذائف من سوريا التي سقطت في بلدة على الحدود التركية في أكتوبر2012 مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص، وسبقتها في يونيو من العام ذاته، إسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة تركية مقاتلة في شرق البحر المتوسط.

على الجانب الآخر، تتمسك موسكو بدعم نظام الرئيس بشار الأسد وتحول دون تبني أي قرار في مجلس الأمن الدولي يدين هذا النظام، حيث يذكر أن روسيا صوتت بالفيتو ثلاث مرات لحماية النظام السوري. وقد اتسعت حدة الخلاف بين البلدين مع قيام القوات الجوية التركية في 11 أكتوبر باعتراض طائرة مدنية سورية متجهة من موسكو إلى دمشق اشتبهت أنقرة في أنها تقل شحنة عسكرية لوزارة الدفاع السورية.
وأكدت روسيا أن الطائرة تقل تجهيزات رادار لا تحظرها الاتفاقات الدولية، مبررة بأن هذه الأسلحة تأتي وفقًا لاتفاقات سابقة مع الدولة السورية ولم يشملها أي قانون حظر من الأمم المتحدة التي هي وحدها المخولة بالمنع. كما أعلنت عن رفضها لقيام حلف شمال الأطلسي بنشر صواريخ “باترىوت” قرب الحدود مع سوريا تلبية لطلب أنقرة، معتبرة أن هذا الأمر يفاقم خطر اندلاع نزاع واسع يكون الناتو طرفًا فيه، وهو ما أوضحه وزير الخارجية الروسي “لافروف” بقوله:” إن مبعث القلق الرئيسي هو أنه كلما زاد كم الأسلحة هناك زاد خطر استخدامها” انطلاقًا من الرؤية الروسية بشأن هذه الصواريخ التي تذهب بعيدًا عن فكرة الدفاع عن الحدود في المرحلة الحالية، إذ لا مبرر في هذه المرحلة بمعطياتها الآنية للقلق الحدودي، لذا ترى موسكو أن الخطر الحقيقي يكمن في النوايا والاحتمالات المستقبلية
ولعل هذا ما يفسر إرسال روسيا أربع بوارج إلى مرفأ طرطوس على البحر المتوسط. وهو ما يقابله رفض تركي لمثل هذه التبريرات، وهو ما عبر عنه رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان ،من إسلام آباد، بقوله:” إن نشر الباتريوت لا يعني روسيا، ومن الخطأ أن تتدخل روسيا في شأن تركي داخلي. والصواريخ هدفها الدفاع عن أمن تركيا”. ولكن، رغم هذا التباين في المواقف لم يحل دون حرص الطرفين على الحوار المشترك من أجل التوصل إلى تسوية تتفق ومواقفهما، ومن ذلك:
– لقاء المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط “ميخائيل بوجدانوف” مع النائب الأول لوزير الخارجية التركي “فيريدون سينير ليوجلو” في العاصمة التركية أنقرة في نوفمبر 2012، بشأن الوضع السوري، لتصدر وزارة الخارجية الروسية بيانًا جاء فيه :” أن السبيل إلى تحقيق السلام في سوريا هو الالتزام ببنود بيان جنيف الصادر بشأن سوريا في 30 يونيو 2012، كونه يوفر الآلية اللازمة لإنهاء حمامات الدم في سوريا وإقامة حوار وطني”. – اتفاق يُحاك بخصوص الملف السوري الذي تقدمت به أنقرة لروسيا من خلال توجه أمريكي، طبعًا الاتفاق كان يقوم على نقطتين:
مفاوضة الأسد على تسليم السلطة وتشكيل حكومة ذات صلاحيات واسعة تأمن للأسد العفو والبقاء حتى سنة 2014.
تشكيل حكومة، ودعم المعارضة السورية دون الأسد، وبالتالي يفقد كل الحصانات الدولية.

– من الأهمية بمكان أن يكون واضحًا بأنه مهما بلغ تفاؤل البعض لحماسة الجانب التركي للتدخل العسكري، إلا أنهم يتناسون أن لتركيا مشكلات رئيسة يمكن أن تصنف مثل الحالة السورية، وهي مشكلات الأكراد وتمردهم، بما يجعل من الصعوبة بمكان قبول تركيا لحل عسكري يهدد أمنها واستقرارها، وهي بذلك لا تختلف عن الموقف الروسي الذي يستحضر – إلى جانب مصالحه العسكرية والاقتصادية- الأزمة الشيشانية، وإلى أي مدى يمكن أن يتقبل تغيير النظام أو التدخل في الشأن السوري عسكريًّا، بالكيفية التي يمكن أن تشجع الشيشان على التفكير في خيارات مشابهة، أو تشرعن تغيير النظم بدعوى ثورة الشعوب؟
-إعلان سابق للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خلال زيارة “أحمد داود أوغلو” وزير الخارجية التركي موسكو، بأن: “روسيا جاهزة لمناقشة الاقتراحات البناءة الهادفة لإنهاء العنف في سوريا، وإن بلاده تقبل بالمرحلة الانتقالية في سوريا دون اللجوء إلى مجلس الأمن والقرارات الدولية” وهو ما يطرح تساؤلًا بدوره، هل يعني ذلك أن القيادة الروسية على استعداد لتغيير طريقة تعاملها مع الأزمة في حال حصلت على التعهدات والضمانات التي تحمي مصالحها عند فقدان حليف إستراتيجي كبير، مثل نظام الرئيس الأسد؟
2- عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي وما تفرضه هذه العضوية من التزامات واستحقاقات على الجانب التركي الالتزام بها، والتي من الممكن أن تتعارض مع المصالح والأهداف الروسية حيال بعض قضايا المنطقة، فعلى سبيل المثال السياسة التركية في منطقة البحر الأسود واشتراكها في مشاريع بحر قزوين وخطط إمدادات الطاقة المنطلقة من أذربيجان وجورجيا نحو أوروبا، ربما لن تجد هذه السياسة قبولًا روسيًّا في ضوء المسعى الروسي لتعزيز نفوذه في تلك المناطق. كما تمثل أزمة البرنامج النووي الإيراني إشكالية أخرى في علاقات البلدين، خاصة في أعقاب إعلان إيران نفسها دولة نووية وفشل المحادثات الدولية (5+1) في هذا الخصوص، وإمكانية تحرك واشنطن لمطالبة الحليف التركي بتحديد خياراته بأسرع ما يكون والتي بلا شك تتعارض مع السياسة الروسية ومصالحها الحيوية ومناطق نفوذها الإقليمية، وهو ما يضع العلاقات التركية الروسية على المحك.
3- العلاقات التركية – الأرمينية، فلا شك أن التقارب الروسي التركي سيتأثر إيجابًا وسلبًا بموقف البلدين من القضايا الخلافية بينهما، خاصة في ضوء الموقف الذي اتخذه الرئيس الأرميني “سيرج سارجسيان” بتفجير الأزمة من جديد بقراره إيقاف المحادثات، بعد توصل الجانبين إلى تفاهم، وتوقيعهما بروتوكولًا بشأن إقامة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين البلدين، وعقد مشاورات سياسية دورية بين وزيري الخارجية، إضافة إلى تنظيم حوار خاص بالبعد التاريخي للعلاقات، بهدف خلق أساس من الثقة بين الشعبين التركي والأرميني. وعلى الرغم مما يعتقده البعض من أن التقارب التركي الروسي يمكن أن يمنح روسيا إمكانات عملية للتدخل كوسيط لتسوية أزمة العلاقات التركية – الأرمينية.

وذلك ليس فقط بسبب علاقاتها مع الجانبين، وإنما لأن تسوية هذه الأزمة تحقق مصالح روسيا في فتح كافة طرق النقل والترانزيت دون عقبات، إلا أن تأزم علاقات البلدين (تركيا وأرمينيا) خاصة بعدما شهدت العلاقات بين البلدين أزمتها الثانية التي أسفرت عن قرار أنقرة بإغلاق الحدود عام 1993، بعد أن تفجرت الحرب الأرمينية – الأذربيجانية حول مصير إقليم ناغورني قره باخ، واحتلال القوات الأرمينية لبعض المناطق الأذربيجانية، وانحازت تركيا إلى جانب أذربيجان، وطالبت حكومة يريفان بالتوصل إلى تسوية مع باكو، تراعي مصالح وسيادة أذربيجان. يجعل من هذه القضية عقبة في مسار التقارب التركي- الروسي، خاصة إذا علمنا حجم التعاون الروسي العسكري مع إرمينيا الذي يصل إلى وجود قاعدة عسكرية روسية على الأراضي الأرمينية تضم صواريخ الدفاع الجوي “إس-300″ ومقاتلات “ميغ-29″.
4- العلاقات التركية الجورجية، إذ ترتبط تركيا مع جورجيا -جارتها من الغرب- بعلاقات خاصة وتتضامن معها، حيث تعيش جالية أبخازية من أصول تركية مسلمة كبيرة في جورجيا، كما هي المكان الذي يمر منه أنبوب النفط الآذري الواصل إلى ميناء جيهان التركي، فضلًا عن ممر خط الحديد الذي سيربط تركيا وأذربيجان سيكون منها أيضًا، عليه ترى تركيا أن هذه العلاقة تشكل عنصر توازن مهمًّا في دعم علاقاتها بدول القوقاز. ومن ثم وجدت تركيا نفسها في موقف صعب حينما قام الروس باجتياح جورجيا في 8 أغسطس 2008، ورغم محاولة تركيا تبني النهج الحيادي في هذا الأزمة، إلا أنه من الصعوبة أن تنجح تركيا في الالتزام بحياديتها مع وقوع أزمة مستقبلية. ومن الجدير بالإشارة في هذا الصدد أن تركيا طرحت مشروعًا يدعو إلى تشكيل حلف متعدد الأطراف والأقطاب للتعاون والشراكة والأمن في منطقة القوقاز بهدف تقليص تأثيرات المواجهة الروسية مع الغرب على مصالحها الإستراتيجية، فضلًا عن دوره في جميع دول الجوار الإقليمي تحت مظلة التفاهم ووضع التصورات المشتركة من أجل حفظ الاستقرار في المنطقة.
5- العلاقات التركية الأمريكية، فمن المعلوم أن العلاقات التركية الأمريكية ذات خصوصية متميزة، بما يفرض على تركيا أن تحسم خياراتها بشأن تقاربها مع روسيا، فإذا كان صحيحًا أن وقوف تركيا إلى جانب روسيا قد يعزز فرصها في أن تصبح مضخة لتدفقات النفط القادمة من منابع احتياطيات النفط والغاز الكبرى في العالم في آسيا الوسطى وبحر قزوين وكازاخستان، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن تقاربها يؤدي أيضًا إلى تعاظم النفوذ الروسي ومعه الإيراني في المنطقة، وهو ما يتعارض بدوره مع مواقف الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة حيث يؤدي هذا التقارب إلى تراجع لنفوذ الأمريكي وهو ما سيشكل خسارة إستراتيجية نوعية لها، بما قد يدفعها إلى استخدام بعض الأسلحة ضد تركيا كتحريك قضية الأكراد لتقويض استقرار تركيا أو إثارة القضية الأرمينية بتبني مزاعم الأرمن، وأيضًا دعم الموقف اليوناني إزاء استقلالية قبرص، فضلًا عن الورقة الكبرى وهي نسفها لطموحات تركيا وعرقلة دخولها إلى الاتحاد الأوروبي.

من البدهي أن مصالح روسيا وتركيا لن تتطابق كليًّا أبدًا؛ نظرًا لوجود تطلعات هائلة لدى الدولتين اللتين توجد لكل منهما تقاليد إمبراطورية في الماضي، بينما تتقاطع مجالات تأثيراتهما المباشرة على الفضاء المحيط بهما. ولكن الوضع الدولي الجديد الذي يتصف بزوال حالات المواجهات النظامية السابقة، يشهد تنامي أدوار الدول الكبرى الإقليمية، بينما تمارس بلدان متوسطة في بعض الأحيان تأثيرًا أكبر في سير الأحداث من الدول العملاقة. وتحتاج في ظله تلك الدول القليلة نسبيًّا التي تنتهج سياسة خارجية نشيطة ومستقلة، إلى نوع من تنسيق خطواتها فيما بينها، الأمر الذي يجعل ضرورة الحفاظ على الاتصالات البناءة مع أنقرة من بين المهمات ذات الأولوية بالنسبة لموسكو رغم كل التقلبات السياسية الجارية على الساحتين الإقليمية والدولية.
يذكر أن روسيا وتركيا تختلفان فيما بينهما في رؤية أسباب وعواقب النزاع السوري ولا يمكن توقع توصل الجانبين إلى أي حل وسط في هذه المسألة. ولكن لا بد من القول: إن الأزمة السورية رغم كل أهميتها بالنسبة للوضع في الشرق الأوسط والمشهد السياسي الدولي أجمع، لن تدوم إلى ما لا نهاية. وفي ضوء تلك الحقيقة يجب أن تنصب أمام القيادتين الروسية والتركية مهمّة حيوية مشتركة ألا وهي الحيلولة دون أن تلقي الخلافات الحالية بين البلدين بظلالها على التعاون اللاحق بينهما، وهو ما أشار إليه الرئيس التركي خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد في ختام زيارته، وذلك بقوله: “إن الخلاف مع روسيا موجود وهو قائم بحد ذاته وخاصة بالملف السوري، وهذا لا يعني التوجه نحو عقلية الحرب الباردة، وهذا الخلاف يأتي ضمن وجهة نظر البلدين ،ولكنه لن يكون عقبة في تطوير أو تجميد العلاقات نهائيًّا بين روسيا وتركيا”.
تشير المعطيات الميدانية في سوريا إلى أن التدخل العسكري الروسي وصل إلى سقفه الأعلى دون أن يستطيع تحقيق الحسم، فالمعارك على مختلف الجبهات مازالت تتسم بطابع أخذ ورد بين مقاتلي المعارضة وجيش النظام وحلفائه، واستطاعت قوات المعارضة في الأسابيع القليلة الماضية أن تستعيد زمام المبادرة في جبهات مهمة، وأن تبسط سيطرتها مرة أخرى على مناطق كانت قد خسرتها في معارك مع جيش النظام وحلفائه بعد التدخل العسكري الروسي، مما يضع موسكو أمام خيارين: إما زيادة تورطها العسكري في سوريا أو الانسحاب منها.

الخيار الأول يحمل محاذير كبيرة تعي موسكو مخاطرها، بينما سيُنظر إلى الخيار الثاني كهزيمة إستراتيجية لها، وفي مثل معطى كهذا لا يبقى أمام الكرملين سوى البحث عن خيار ثالث أقل تكلفة، بالإبقاء على وجودها العسكري في سوريا، مع إبداء استعداد لضبط مستوى التدخل واستهدافاته، والتخفيف من مخاطره، بالتقليل من الخسائر المحتملة في الداخل السوري والحيلولة دون هجمات على الأراضي الروسية من قبل خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهنا تبرز حاجة روسيا إلى شريك مثل تركيا.
في المقابل؛ شهد التأثير التركي في الملف السوري تراجعا كبيرا في الأشهر القليلة الماضية، ليس فقط بسبب التدخل العسكري الروسي وحالة اللامبالاة عند الناتو والولايات المتحدة، وخشية أنقرة من التورط في حرب مع موسكو، بل أيضا بسبب السياسات الأميركية وضلوع واشنطن في خلق فيدرالية كردية في شمال سوريا على الحدود مع تركيا. ويبدو أن أنقرة لم تعد تعارض من حيث المبدأ الوجود والتدخل العسكري الروسي في سوريا، فالانتقادات التركية تنصرف إلى المطالبة بضبطه على قاعدة تفاهمات بين موسكو وأنقرة، تضمن احترام المصالح التركية.

ومن المفترض أن تفسح عملية “إعادة تشغيل العلاقات” دورا أكبر لتركيا في العمليات العسكرية ضد داعش داخل الأراضي السورية، وأن يكون لتركيا ثقل أكبر في المفاوضات السياسية في فيينا مستقبلا بين النظام السوري والمعارضة، بما يضمن لأنقرة العمل على إفشال مشاريع إقامة كيان فيدرالي كردي على حدودها الجنوبية.
ويرى محللون روس وأتراك أنه ليس من مصلحة تركيا انسحاب روسيا من سوريا في المدى المنظور، وربما هذا يفسر إعراب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن أمله بـ”إقامة الجيشين التركي والروسي اتصالات مشتركة فيما بينهما بشأن القضية السورية”، ويرجع التغيير “المفترض” في الموقف التركي إلى مخاوف من أن يؤدي الانسحاب الروسي في ظل الوضع القائم إلى زيادة النفوذ الإيراني، وإطلاق يد الولايات المتحدة في تنفيذ سياسات ومخططات تهدد المصالح العليا لتركيا.
تحليلات روسية تذهب إلى أبعد من ذلك بالحديث عن أن أنقرة قد تقبل ضمنيا بسيطرة جيش النظام على المناطق التي تسيطر عليها حاليا الميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة (وحدات حماية الشعب)، التي يشكِّل عمودها الفقري حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” المرتبط بحزب “العمال الكردستاني” التركي. ولا يستبعد المؤيدون لهذا التحليل قيام نوع من التنسيق -ولو بشكل غير مباشر- بين تركيا وإيران والعراق ونظام الرئيس الأسد، تحت مظلة روسية، في مواجهة الجماعات الانفصالية الكردية المسلحة. وبالطبع لا شيء يعطى بالمجان. من المتوقع أن تتجه العلاقات الاقتصادية بين البلدين نحو المزيد من التقارب في ضوء السعي التركي لشراء النفط الروسي تعويضًا عن الانخفاض في شحنات النفط من إيران نتيجة للعقوبات الدولية المفروضة ضد الجمهورية الإسلامية، وذلك وفقًا لوزير الطاقة تانر يلديز في تصريح لصحيفة “حريت”، بما يجعل من السهولة بمكان القول: إن البلدين نجحا كما وصف “سنان أولجن” الدبلوماسي التركي السابق ورئيس مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية (EDAM) في إسطنبول:” في تجزئة خلافاتهما، فالعلاقات الاقتصادية والمنافع المتبادلة هي الأهم”. وفي ضوء كل ما سبق، يظل التساؤل الأهم، إلى أين تتجه العلاقات التركية الروسية؟وتأتي الإجابة متراوحة بين تصورين أو سيناريوهين على النحو الآتي:
الأول، أن التقارب والتعاون الإيجابي على الصعيد الاقتصادي والتجاري، من شأنه ترميم العلاقات السلبية على صعيد القضايا السياسية وتجسير الفجوة بين رؤية البلدين.
الثاني، أن ينسحب التوتر في علاقات الطرفين بصورة سلبية على مجالات التعاون والتقارب بينهما ليسهم في تصعيد حدة الاحتقان في علاقاتهما.
وتحسم القراءة المتأنية لتوجهات البلدين لصالح التوجه الأول، فبعيدًا عن مدى أهميته وصلاحيته واتساقه مع الحقائق التاريخية والمصالح السياسية للطرفين، فقد أظهر لقاء أردوغان وبوتين وتصريحاتهما الصحفية توجه البلدين نحو تفضيل هذا السيناريو، وهو ما يتطلب بلورة وتطبيق القواسم المشتركة اللازمة لتسوية المشكلات بينهما وذلك من خلال لجوء الطرفين إلى المزيد من المؤسساتية في علاقاتهما
فصحيح أن ثمة عددًا من المؤسسات المعنية بتنظيم علاقات الجانبين في مختلف المجالات كوجود مجلس للتعاون رفيع المستوى بين البلدين على المستوى السياسي وكذلك لجان ومجالس للإعمال، إلا أنه أمر غير كاف، إذ يمكن بهذا الصدد الإقدام على الكثير من الخطوات الملموسة من قبيل تدعيم هذه المجلس من الناحية التنظيمية وتشكيل فرق الخبراء القادرة على مواصلة النشاطات المتبادلة والقيام بأعمال وتطوير مشاريع مشتركة بشأن حل كل مشكلة. مع الأخذ في الاعتبار أن الغاية الأساسية لهذه الترتيبات

ينبغي أن تتركز على تدعيم الفهم القائل بأن كافة أنواع المشكلات القائمة في المنطقة تنطوي على مخاطر وأضرار بالنسبة للاعتماد المتبادل القائم بينهما. وفي هذا الإطار يتعين عليهما القيام بكل ما بوسعهما لتدعيم تعاونهما في سبيل إيجاد الحلول السليمة لجميع القضايا الإقليمية وعلى رأسها الأزمة السورية.
فاجأ التصعيد التركي تجاه روسيا الكثير من المتابعين للمشهد الدولي، خاصة الذين لم يتوقعوا أن تتسارع الأحداث بشكل دراماتيكي؛ لتنذر بسيناريو تفجُّر حرب بين أنقرة وموسكو، أو حتى حرب إقليمية في ظل تزايد عناصر التوتر التي تدفع بمثل هذا السيناريو إلى الواجهة، لاسيما في ظل حالة الفراغ في المشهد الإقليمي العربي، والذي تغامر قوى إقليمية طَموحة بالاندفاع من أجل ملئه، مع حالة الارتباك التي تطبع السياسة الخارجية الأميركية، اللاعب التقليدي في المنطقة. حتى نتبين أفق الأزمة والعلاقات التركية-الروسية المتوترة من الضروري وضع هذه العلاقة في سياق تطورها التاريخي، بما يساعد على إدراك المحددات الأساسية لهذه العلاقة؛ ما يساعد على تسهيل عملية استشراف مآلات تطوراتها.
العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا
العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرؤون حادثة إسقاط الطائرة الروسية “سوخوي” في سياق طبيعة العلاقة التي حكمت البلدين لزمن طويل؛ فالتدخل العسكري الروسي في سوريا، وبشكل فجائي، رأى فيه الكثير مغامرة لن تمر دون أن تكون لها تبعات وتداعيات خطيرة على المشهد السوري والإقليمي. ولم يكن متوقعًا أيضًا أن تقف تركيا مكتوفة الأيدي والمقاتلات الروسية تدك مناطق سورية محاذية لها، هي أساسًا مناطق يفيض بعضها على البعض سكانًا وتاريخًا، تحتضن من السوريين العرب بقدر ما تحتضن من السوريين التركمان. كما ترى أنقرة في هذه المناطق المستهدفة بالصواريخ الروسية عمق أمنها القومي، فكيف تجرؤ عليها دولة قادمة من الشمال البعيد، لا شيء يبرر لها ما تفعله، غير رغبة في تعزيز نفوذها وتوسيعه على حساب الأمن القومي التركي.
عرفت العلاقات التركية-الروسية خلال القرون الأربعة الماضية حروبًا ونزاعات وتوترات كبيرة. وقد نشأ عداء كبير بين تركيا العثمانية وروسيا القيصرية بسبب الصراع على النفوذ، صراع عمَّقه تجاورهما الجغرافي، معطوفًا على التاريخ والثقافة والسياسة. روسيا التي كانت ترى في نفسها “روما الثالثة” وكان يراودها حلم استعادة أمجاد الماضي البيزنطي، لم تكن لتنسى أن العثمانيين هم من انتزعوا القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية “روما الثانية” في العام 1453 لذلك كان عداؤهم لتركيا العثمانية تحرِّكه أطماع إمبراطورية وتغذِّيه نوازع دينية.
إلى جانب ذلك، أسهم الانتشار العِرقي للأتراك في الجمهوريات السوفيتية سابقًا وحتى روسيا الاتحادية (عدد المسلمين اليوم في روسيا يصل إلى 15% وسيصل إلى 30% في العام 2050 (2) حسب تقديرات الأمم المتحدة) في تنامي المخاوف الروسية من اختلال سكاني سيكون بالضرورة لحساب الأتراك في المدى المتوسط والبعيد. كما أنه وبسبب الموقع الجغرافي لم يتوقف الروس عن مساعيهم المستمرة لتأمين نافذة لهم على المياه الدافئة عبر بحر إيجه والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. وقد خاض الروس منذ العام 1677 ثلاث عشرة حربًا ضد الأتراك العثمانيين وافتكُّوا منهم مناطق كبيرة. وكان حرص الروس دومًا على السيطرة على المضايق التي تقع تحت سلطة تركيا العثمانية.
لم تتردد روسيا القيصرية في المشاركة في الحرب على الأتراك العثمانيين، بل وأسهموا إسهامًا أساسيًّا في فكِّ الحصار الذي ضربته الجيوش التركية على فيينا في 1683، وَوُجِه بتحالف قوى غربية. وقد كان إنهاء ذلك الحصار وصدُّ الجيوش العثمانية لحظة حاسمة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية ومستقبلها. لم تفعل قوة مثلما فعلت روسيا القيصرية في سعيها لإضعاف الإمبراطورية العثمانية ورؤيتها تتهاوى، ولم تخض روسيا القيصرية حروبًا ضد دولة مثلما خاضتها ضد تركيا العثمانية؛ فقد حاولت الجيوش الروسية مرتين “استرداد” إسطنبول، الأولى في العام 1829 والثانية في1877 -1878(3)، غير أن المحاولتين باءتا بالفشل. كما لم تفوِّت روسيا فرصة الحرب العالمية الأولى لتضم أراضي كانت تابعة لتركيا العثمانية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت علاقة تركيا بروسيا نوعًا من الاستقرار مع قيام نظام جديد في روسيا عقب الثورة البلشفية 1917 ونهاية الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية في 1923 بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، وإن عادت العلاقات متوترة خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب ما رأت روسيا فيه تقاربًا تركيًّا اقتصاديًّا سياسيًّا مع ألمانيا النازية. وتعمَّق التباعد مع انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي “الناتو” في 1952، والذي كان بمثابة تخندقًا في المعسكر المقابل للسوفيت الذين كانوا يقودون حلف وارسو، في إطار الحرب الباردة. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي تباينت المواقف التركية والروسية بشأن قضايا إقليمية كثيرة على غرار مسألة إقليم ناغورنو كاراباخ والمسألة الجورجية والتقارب الروسي-الإيراني المثير لقلق أنقرة. مع بداية الألفية الثالثة شهد التعاون الاقتصادي التركي-الروسي نقلة كبيرة، وصلت معها موسكو في سنوات قليلة إلى ثاني أكبر شريك تجاري بعد ألمانيا الاتحادية، وأصبحت تركيا وجهة السياح الروس بعدد لم يتجاوزه إلا عدد السياح الألمان (يُقدَّر عدد السياح الروس بحوالي 3,5 ملايين من بين 37 مليون سائح يزورون تركيا سنويًّا).
فمنذ نهاية الحرب الباردة حققت العلاقات التركية-الروسية تحولًا نوعيًّا، وصفه بعض المراقبين بالحلف الاستراتيجي الجديد، بين بلد روسي ينهض من بين ركام الاتحاد السوفيتي وآخر تركي يتلمس طريق نهضته خروجًا من سجن الأتاتوركية الصارمة ودون الارتهان المطلَق لعضوية مأمولة في الاتحاد الأوروبي لا يبدو أنها ستتحقق. أدرك مسؤولو البلدين مدى الحاجة للتعاون والشراكة، لما يجمعهما من مصالح بحكم التاريخ والجغرافيا، وشجَّع على ذلك النجاح التركي في ردم التفاوت بينه وبين روسيا إلى حدّ كبير

وعلى مستويات مختلفة، بما فيها القوة العسكرية والنمو الاقتصادي المتسارع. فتركيا التي كان إنتاجها القومي الخام في العام 1990 يمثِّل 10% من الإنتاج القومي الخام للاتحاد السوفيتي وصل في العام 1999 إلى 80% من الإنتاج القومي الخام لروسيا الاتحادية، والأمر نفسه ينطبق على القوات المسلحة التركية التي قفز عددها من 1/5 نسبة للقوة السوفيتية ارتفع إلى أكثر من 2/3 نسبة للقوات الروسية، وأصبحت أكثر تدريبًا وجاهزية. كما أدَّى استقلال جورجيا عن روسيا الاتحادية إلى اختفاء الحدود المشتركة بين البلدين: تركيا وروسيا؛ ما ساعد على تبديد المخاوف والحذر بينهما في ظل الخلافات التاريخية والامتداد العِرقي الذي كان عامل توتر بينهما في الكثير من الأوقات.
وخلال هذه الفترة دافع الكثير من المثقفين والخبراء الروس والأتراك عن حاجة البلدين لإقامة تحالف استراتيجي في مواجهة الغرب ومساعيه للهيمنة على المنطقة لاسيما آسيا الوسطى والبلقان، ولما يتيحه هذا التحالف من فرص للبلدين على المستوى الأمني والاقتصادي والاستراتيجي؛ فهما يواجهان بشكل أو بآخر موقفًا غربيًّا ينتهج مقاربة الاحتواء والاستغلال وليس التقدير لمثل هذه القوى التي لها مكانتها ودورها، وتتطلع أن تحقق نهضتها وتفرض نفسها في المشهد الإقليمي والدولي.
ازدهرت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا بشكل لافت نجحت فيه بالتغطية على الخلافات السياسية، وتحولت روسيا إلى أهم شريك تجاري لتركيا، متجاوزة في 2008 بذلك ألمانيا، لاسيما في قطاع الطاقة. من جهة أخرى، احتلت السوق الروسية المرتبة الثالثة بالنسبة للصادرات التركية، وكان من المتوقع أن يصل حجم المعاملات الاقتصادية بين البلدين إلى 100 مليار دولار في العام الجاري 2015 (4). وكان هناك توجه من الطرفين وتفاهم يتعلق ببناء أنبوب لنقل الغاز يمر عبر تركيا، بيد أن تركيا تراجعت في العام 2000 عن المضي في هذا المشروع والانضمام للتعاون مع الغرب في مشروع نباكو (Nabucco) الذي جرى إقراره من أجل نقل الطاقة من القوقاز إلى أوروبا عبر التراب التركي، محاذيًا لروسيا ثم إيران. وقد ردَّت روسيا بمشروع أنبوب الجنوب، الذي ينقل الغاز لأوروبا عبر البحر الأسود.
حرصت تركيا خلال 15 عامًا الماضية على “تصفير المشكلات” مع عمقها الاستراتيجي، وضبطت سياستها الخارجية وعلاقتها مع روسيا على هذه المقاربة، متجنِّبة أي انزياح أو انحراف عن هذا المسار رغم بعض السياسات والمواقف الروسية المتناقضة أحيانًا والمضرَّة حينًا بالمصالح التركية، على غرار العلاقة بالجمهوريات الإسلامية في القوقاز، أو تجاه جورجيا والملف الأرميني.
ونجحت أنقرة خلال السنوات الأخيرة في التحول إلى قوة إقليمية ولاعب أساسي في منطقة القوقاز، مستثمرة العلاقات التاريخية القديمة مع غالبية دول المنطقة، والحضور البارز لذوي الأصول التركية في هذه الجمهوريات،
التي ما إن تفكك الاتحاد السوفيتي حتى نشطت علاقتها بتركيا بشكل ملحوظ. وبادرت تركيا إلى تفعيل حضورها الثقافي والديني والاقتصادي في هذه الجمهوريات، وأنشأت مدارس وجامعات، مستفيدة من الانتشار المثير لمدارس ومؤسسات فتح الله غولن، لتوسع من خلال ذلك نشاطها واستثماراتها الاقتصادية، التي توسعت وتنوعت وتعززت في كل المجالات، فتحولت إلى الشريك الاقتصادي الأساسي لهذه الجمهوريات بما أبدته من نجاعة وتميز في إنجاز المشاريع المستحقة، وباقتدار مثير، للإعجاب.
ولئن قبلت روسيا مبدئيًّا بهذا النشاط التركي، فإنها رسمت خطوطًا حمراء لهذا الدور، لتحصره في إطاره الاقتصادي الثقافي والحيلولة دون أن يتحول إلى تحالفات سياسية، لاسيما أن موسكو كانت تنظر للنشاط التركي باعتباره مدخلًا محتملًا للأميركيين لاختراق المنطقة والهيمنة عليها، أو تعزيزًا لتمدد حلف الناتو، الذي كما هو معلوم حرص على التوسع في تلك المناطق، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
لذلك عملت موسكو على الحدِّ من الحضور التركي، ساعدتها في ذلك إيران والصين اللتان تحملان نفس الهواجس مع روسيا تجاه التغلغل الأميركي والحلف الأطلسي في المنطقة. وإن أبدت روسيا تساهلًا تجاه السياسات التركية في منطقة آسيا الوسطى، التي تضم أساسًا أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، فإنها ظلَّت باستمرار حذرة جدًّا من الحضور التركي في القوقاز، المنطقة التي تتصل فيها حدود قارتي أوروبا وآسيا معًا، أي تحديدًا في المنطقة التي تقع ما بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتتكون من دول القوقاز، وهي: أبخازيا، وأديغيا، وأجاريا، وأرمينيا، وأذربيجان، والشيشان، وداغستان، وجورجيا، وإنغوشيتيا، وتشيركيسيا، وقراتشاي، وبلقاريا قبردينو، وكراسنودار كراي، وجمهورية مرتفعات قرة باغ، وناخيتشيفان.
بيد أن تركيا نهجت سياسة مطامنة للروس، مسلِّمة بنفوذهم في هذا المنطقة، وتفهمًا لما لهذا الفضاء الجغرافي من أهمية حيوية لموسكو، التي ترفض أية محاولة لتطويقها من خلال دول كانت لعقود تحت النفوذ السوفيتي.
الربيع العربي: زلزال في الشرق الأوسط يهز المصالح التقليدية
تفكَّك الاتحادُ السوفيتي في العقد الأخير من القرن الماضي، غير أن ما تركه من نفوذ واسع في الشرق الأوسط، لاسيما في الدول التي انحازت بشكل أو بآخر لصالح الحلف الاشتراكي، انتقل نفوذًا لروسيا الاتحادية وإن انحسر في بعض الدول واختفى في أخرى. وحرص فلاديمير بوتين على تأمين النفوذ الروسي التقليدي في المنطقة، بل وعمل على تعزيزه، مستفيدًا مرة من ارتباك السياسات الأميركية في المنطقة وما خلَّفته من فراغ، ومرة من خلال صفقات السلاح والتعاون العسكري مع أطراف عديدة. بيد أن الربيع العربي وما شهدته المنطقة من انتفاضات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الأولى، هزَّ المعادلات التقليدية وما يرتبط بها من نفوذ اللاعبين الدوليين فيها، لاسيما النفوذين الأميركي الروسي. وضعت تقلبات الشرق الأوسط الروس والأتراك وجهًا لوجه.
موسكو التي كانت تتوقع أن تجد نفسها وجهًا لوجه مع واشنطن لم تجد ذلك بعد أن اختارت إستراتيجية أخرى في المنطقة هي بين “القيادة من الخلف “(leading from behind) والانكفاء. معادلة مختلفة وضعت أنقرة وموسكو وجهًا لوجه في المنطقة. وكان ذلك متوقَّعًا بسبب ما شهدته السنوات الماضية حتى ما قبل الثورة من صعود ملحوظ لتركيا كأهم لاعب إقليمي، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، في ظل استفادتها من العُزلة الإيرانية وانخفاض أسعار النفط، وتبنِّي دبلوماسية نشطة، وعضوية في حلف الناتو، مع وضع داخلي مستقر إلى حدّ كبير. وضعت التحولات التي اجتاحت المنطقة النفوذَ الروسي في مهب الريح، منذرةً بتقويض ما تبقى لها من نفوذ. رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حصل في ليبيا من إنهاء لحكم القذافي باعتباره طعنة لموسكو بعد أن جرى التوسع في تفسير قرار مجلس الأمن الدولي 1973، من حماية المدنيين إلى تحرك عسكري لإسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي.

ودفع هذا التطور الدولي موسكو إلى التحرك بكل ثقلها لإنقاذ النظام السوري، والحيلولة دون إسقاطه وربح الوقت لانتزاع اعتراف بنفوذها التقليدي.
ولم تقبل موسكو أن تعمل قوى إقليمية ودولية على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط دون أن يكون لها إسهام فيها. فقد كانت موسكو للسنوات الطويلة ما قبل الربيع العربي حليفًا استراتيجيًّا لما يُعرف بـ”محور الممانعة”، بل ومتطلعة إلى أدوار متقدمة في مسار السلام العربي الإسرائيلي، إلى جانب علاقاتها المتنامية مع الإسرائيليين.
وجدت روسيا نفسها وجهًا لوجه مع تركيا، الداعمة الرئيسية للثورة، والحاضنة الأساسية للاجئين السوريين. وبقدر ما بدت تركيا متفاعلة ومتبنية لموجة التغيير الديمقراطي وداعمة لها، بقدر ما بدت روسيا في موقع معاكس، مدافعة عن وضع قديم، مرتكزه استمرار الديكتاتوريات العربية على غرار النظامين الليبي والسوري.
لقد زاد من تعقيد وحرج الموقف الروسي في المنطقة أن قوى التغيير الأساسية محسوبة على ما يُعرف بـ”الإسلام السياسي”. هذه القوى لموسكو موقف تقليدي جذري منها من حيث المبدأ، ولا ترتاح لها؛ إذ ترى في صعودها خطرًا على استقرارها وأمنها القومي في ظل تنامي عدد المسلمين في روسيا الاتحادية. كما ترى موسكو أن الاستهداف الذي تتعرض له دول ما يُعرف بمحور “الممانعة” من قِبل قوى التغيير من شأنه أن يقوِّض نفوذها، وينتزع منها فرص المساهمة في صياغة النظام الإقليمي الجديد الذي سيعقب هذه التحولات التي تجتاح المنطقة. وبين الدعم المباشر للنظام السوري عسكريًّا واقتصاديًّا، ودعْم طهران في مفاوضاتها النووية، إلى تكثيف جهودها الدبلوماسية لايجاد تسوية بين نظام الأسد والمعارضة، حرصت موسكو على أن تؤمِّن حضورها في المنطقة. بل وساهمت مساهمة رئيسية في لجم أنقرة عن التدخل العسكري في سوريا لصالح الثوار، فاعترضت على فرض منطقة عازلة لحماية اللاجئين السوريين سعت أنقرة لإقامتها، واستفادت موسكو في هذا من التحفظ الأميركي على التحرك التركي في سوريا؛ حيث كانت ترى فيه توسعًا للنفوذ التركي سيقلِّص فرص مناورتها في المشهد السوري.
فالسياسة التركية نزعت منذ سنوات إلى تحقيق نوع من الاستقلالية عن سياسات الناتو من جهة وعن حلفائها التقليديين لاسيما واشنطن، محاوِلة انتهاج خط ثالث غير تقليدي في السياسات الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، يستعيض عن معادلة “الديكتاتورية مقابل الاستقرار” إلى معادلة “التحول الديمقراطي يحقق الاستقرار”
الرد التركي لم يتأخر، فإلى جانب موقفها القوي الرافض لاستمرار الأسد في الحكم، احتضنت أنقرة مختلف أطياف المعارضة، بل ذهبت في أكتوبر 2013 إلى حدِّ إجبار طائرة سورية قادمة من موسكو باتجاه دمشق على الهبوط في تركيا وإخضاعها للتفتيش، وكان على متنها 35 شخصًا بينهم روس. عكَسَ هذا الحادث تصاعد التوتر بين موسكو وأنقرة، وكادت تُلغى بسببه زيارة الرئيس الروسي لتركيا.
وحذَّرت أنقرة موسكو العديد من المرات من اختراق طائراتها للأجواء التركية، وبدت متضايقة جدًّا من التدخل الروسي المباشر في سوريا، في تحرك عسكري بدا فيه تجاهل لأي اعتبار لتركيا كقوة إقليمية معنية مباشرة بما يحصل على حدودها. لا شك أن إسقاط الطائرة الروسية، كان رسالة غضب تركي على ما رأته نوعًا من التهديد لأمنها القومي، سواء عبر تنفيذ عمليات على حدودها أو من خلال اختراق مجالها الجوي.
وكما شدد الأتراك على أن لا رغبة لهم في التصعيد تجاه شريك اقتصادي رئيسي، وأن ما قاموا به لا يتعدى كونه حماية لسيادتها ومجالها الجوي. وهي رسالة كان لابد منها تجاه موسكو الشريك الاقتصادي الكبير، حتى يقتنع بأن الشراكة الاقتصادية وحاجة تركيا للغاز الروسي المقدَّر بـ (20 مليار دولار)، لا تعني القبول بالتجاوز تجاهها، أو المس بأمنها القومي.جملة القول أن تركيا يجب أن تكون على بينة من أهمية الحفاظ على تطوير علاقاتها مع روسيا والدفع بها باتجاه خلق صيغة تحقق بها التوافق بين متطلبات التزاماتها الدولية، وبين أن تكون روسيا جارًا ذا علاقات حسنة معها.

الدكتور عادل عامر

Untitled-1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة