منحوسُ المراسي

تاريخ النشر: 18/08/16 | 0:00

الصبح يصبغ ساحة الأفق في صباحٍ ربيعيٍّ لطيف، روائح الكعكِ تفوحُ من أزقّةِ المدينة المُرابطة مراكبها على حدودِها منذ ليلة البارحة، شيء في نفسِه الرّتيبة تحرَّكَ كالتماعةٍ سحريةٍ أضاءتْ له منعطفاتٍ لطالَما فشلَ في حلّ دلالاتِ حيرتِها، فما الذي نبّه الرّاقدُ على حافّة المجهول؟
مزيجٌ من لونِ الأفقِ ورائحة الكعكِ ونسماتِ الصّباح، فإذا به يقرأُ سفرَ الماضي بسهولةٍ واتضاح، يرى ذاته يزاحمُ قطعانَ الغنمِ المطمئنة إلى مساكنِها وهو يتمعّن بعضًا من قطعِ الفواكه التي رماها الفلاحون لعفنٍ أو لعلّةٍ فيها، يعودُ بها إلى والدتِه لتُطعم بها قطيعًا مِن صغارٍ ذرفتْهم أحشاؤها لإبقاءِ ذلك البعلِ الفارّ في رعايتِها ما استطاعتْ إليه سبيلاً، كان قد هاجَ مرة وتزوَّج، لكنّ الأخرى عزفتْ نفسها عنه لسيّئاته، التي ظنَّها سيكونُ في نظرِها نعمات، كما هو في نظرِ الأولى، لكنّه كانَ مخطئاً، فآبَ على كرهٍ لأبنائه، آبَ وكأنّه لمْ يؤب، رجعَ ليعيشَ لذاتِه فقط، أعرضَ عن موقعِه لابنه الأكبر، وظلّ بينهم كولدٍ مُرفّهٍ يأمُر فيستجابُ له، من قالَ بأننا لا ننجبُ والدينا؟

ذلك الكلام الذي ما انفكتْ والدته تُكرّره أمام البعيد والقريب، وتُعيده على مسامعِ بعلِها وأبنائِها كلما جاءَ لها بما تأكلُه هي وأنفارها، أو كلما ساعدَ في حلّ أزمةٍ أو حلّ مشكلة تقبّلُ وجنته لثمةً، وتقول : أنتَ والدنا الذي ليس لنا غيره بعد ربّنا سبحانه وتعالى، ولتهلك الكلمات العذبة من فاهِ والدته، يَخترق الشّدائد ويقطعُ الجلمود، فمرة يَجمعُ الفواكه ويَبيعُها ليَشتري لوازم المنزل، ومرة يَبتاع بعض السّجائر لبَيعها للمُدمنين الكُسالى على المقاعدِ الخشبية، مرّ عملُه بنجاحٍ، ولمْ يبلغ الخامسة عشرة، وأصبحَ لديه دكّانٌ لبَيعِ الفواكه، وعادَ لمدرستِه بعد انقطاعٍ، وظنَّ أنَّ الحالَ قد استقامَ ولمْ يدر بما يخبئه الغدّ.

نمقت الحياة لوالدته حالَ أولئك الرّاجعين منْ أقطارٍ مجاورةٍ بما يسرُّ العَين، نظرتْ إلى ما لديهم وأرادته بشدّة، ونقلتْ له إرادتها في رحيلِه، وتمنَّت عليه تلبيتها، وهو غير مُكترث وجاحد لحالها.
والدتي عندكِ الكثير من الأولاد غيري، أما أنا فليس لي غيركِ، لا تُبعديني فتردّ: الفقرُ يا بُنيّ نهشَ أحشاءنا وأرواحنا، فهلا رأفتنا بخيرٍ يسقينا، فردّ عليها بحقّ لمْ أكمل دراستي الابتدائية بعد، فدنا منها بهدوءٍ وهمسَ: والدتي، لا أريدُ مفارقتكِ، فكيف تريدين؟ الاغترابُ مشكلةٌ تلتهمُ العُمرَ، فردّتْ عليه يا بُنيّ فُصلتَ عن الرّضاعةِ قبل الأوان، كبرتَ واعتمدتَ على نفسكِ مبكرا، فتركَ منزلَه، دموعُه كانتْ تزاحمُ خطواته، وألمٌ كبير كانَ يملأ الفراغَ في روحِه مع كل مشيةٍ أبعدته عنْ أحبَّتِه وأبعدته عنْ بيتِه، ومِن بعيدٍ بدا له المرسى مكفهراً، وبدا له المركبُ اللاصق في المياهِ كغولٍ يزدردُ ولا يأوي، يقتلُ ولا يُحيي، يأخذ ولا يعطي، أخذ نفَسًا كأنما يودِّع به كلِّ الأفئدة التي تخلّتْ عنه.. مسحَ العبَرات العالقة على خدّيه، صعدَ مصطبةَ المرسى، قعدَ حزينا تحت آلاتٍ قديمة متروكة، وما هي إلا لحظات حتى سقطتْ عليه، وكانت تشملُ شاكوشاً كبيرا سقطَ على رأسِه لتفتّت جُمجمته، التي بها ذكرياته.

عطا الله شاهين

12-3-620x410

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة