التقوى ودورها في الحياة
تاريخ النشر: 01/12/13 | 0:16قال بعض العارفين لشيخه: أوصني بوصية جامعة. فقال: أوصيك بوصية الله رب العالمين للأولين والآخرين، في قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء/ 131). ولا شك أنّه تعالى أعلم بمصلحة العبد من كل أحد، ورحمته ورأفتُه أجلُّ من كل رأفة ورحمة، فلو كان في الدنيا خصلة هي أصلح للعبد وأجمع للخير وأعظم في القدر وأعرف في العبودية من هذه الخصلة، لكانت هي الأولى بالذكر والأحرى بأن يوصي بها عباده، فلما اقتصر عليها عُلِم أنها جَمَعَت لكل نصح وإرشاد وتنبيه وسداد وخير وإرفاد.
أجل تلك هي التقوى: الصفة الأم لكل الفضائل، والأهم في دعوة الأنبياء والرسل، والأساس المميِّز بين المؤمن الحقيقي وغيره، وأخيراً زاد الخير للحياة الآخرة كما يقول القرآن الكريم: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197).
في القرآن الكريم ما يقرب من مئتين وخمسين آية مباركة تحدثت عن التقوى والمتقين، وفي الأحاديث الشريفة عن الرسول (ص) عشراتٌ كثيرة منها خُصِّصت للحديث عن التقوى وأسسها وأهميتها. وفي نهج بلاغة الإمام علي (ع) "وردت كلمة التقوى بين أكثر الكلمات استعمالاً، فليس هناك كتابٌ يُركِّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتُني به أكثر من التقوى". وفي خطب الوعّاظ والمرشدين لابدّ من الأمر بالتقوى والتذكير بقول الله عزّ وجلّ في كل خطبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/ 18)، فما هي التقوى إذن، وما سبب الإهتمام بها والحث عليها وما هو دورها في حياة الإنسان وتربيته إن كان لها مثل ذلك؟.
جاء في لسان العرب حول المعنى اللغوي: توقيت واتقيت الشيء، تُقىً وتقية واتقاء: حَذَرته، والاسم "التقوى". فيكون المراد أخذ الحيطة والحذر من شيء يخاف منه. وفي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لم تستعمل كلمة التقوى في معنى مباين لما مر بل جاءت مطابقة له في بعض الموارد أو مع الزيادات في موارد أخرى. ومنها قوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة/ 41). وهي ها هنا بمعنى الحذر من غضب الله الذي يستدعي الخشية والهيبة منه. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران/ 102)، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن/ 16). وهي هنا بمعنى الحذر المستلزم للطاعة والعبادة حسب استطاعة المرء. وقوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور/ 52). وهي هنا الحذر المستلزم للخوف من الله وتنزيه القلوب عن الذنوب. وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة/ 24). وهي هنا الحذر من النار بفعل الواجبات وترك المحرمات التي كلف بها الشارع المقدس.
وأما "التقوى" في الأحاديث الشريفة الواردة إلينا وخاصة في نهج البلاغة فقد استعملت هذه اللفظة أحياناً في معنى آخر أصبح الحذر ملازماً له ونتيجة وأثراً من آثار ذلك المعنى. فعن الإمام علي (ع): كما نسب إليه في نهج البلاغة: "إن من صرّحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن التقحّم في الشبهات. ألا وإنّ الخطايا خيل شُمسٌ حُمِل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار. ألا وإنّ التقوى مطايا ذُللٌ حُمِل عليها راكبها واعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة". وفي كلام آخر: "إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه. وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمت هواجرهم".
فمن هذين القولين نستنتج أنّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوفُ من الله من لوازمه وآثاره. وبتعبير آخر هي صفة نفسية وقوة روحية تحجز الإنسان عن معاصي الله وتجعله في منعة عن اقتراف الآثام، هي ملكة تحول بقوتها بين النفس والمعاصي وبمقدار ما تكون قوتها فإنّها توجهها توجيهاً خالصاً لله سبحانه وتعالى. هي إرادة في داخلنا "لا يفقدنا الله – بسببها – حيث أمرنا ولا يرانا حيث نهانا".
هذه الصفة النفسية ندرك أهميتها حينما نعلم أنها نتاج الجهاد الأكبر الذي عبر به رسول الله (ص) عن صراع النفس الإنسانية مع غرائزها وشهواتها، فإذا ما استطاعت تلك النفس أن تنتصر على خصمها الداخلي تتولد حينئذٍ تلك الملكة الخلقية المسماة "بالتقوى" وتقف بالمرصاد لكل سلوك يؤدي بالإنسان لترك واجب أو فعل حرام، فتقوّمه وترده إلى سواء السبيل. من هنا نفهم أنّ هذه التقوى هي ضابط لسلوك المؤمن ومراقب لحركاته وسكناته. فهي إذن إيمان عملي لا مجرد إيمان تقليدي قلبي كما روي عن رسول الله (ص):
"ليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل، وإن أقواماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا وليس لهم حسنة وقالوا نحن نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". ويُسأل الإمام أمير المؤمنين (ع): من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فيجيب سلام الله عليه: "فأين فرائض الله".
من هذين الحديثين نفهم أنّ الدين معاملة وتنظيم علاقات بين الناس: جماعات وأفراداً. وندرك بالتالي أهمية دعوة الله سبحانه وتعالى إلى بناء المجتمع على أساس التعامل العادل والتعاون الخيِّر لتشكيل خير الأمم في العالمين قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2). بناء المجتمع هذا – الذي أراده الله – لابدّ أن يكون على أساس متين كي لا يمر بتجارب ونكسات أدّت بسبب البناء الهش إلى زعزعة مجتمعات، وقيام أمم سادت بظلمها وطغيانها على أمم أخرى بادت وذهب دمها وحقها هدراً في طيات التاريخ. من هنا في اعتقادنا كان التركيز الأساسي على بناء الفرد وإيمانه بحقوق وواجبات – له وعليه – وينبغي احترامها واحترام ما للآخرين من حقوق ومخصصات. صحيح أن أسلوب الترغيب والترهيب المتبع في القوانين المدنية له أثر لا بأس به في الحفاظ على علاقات الناس مع بعضهم البهض، وتبادل الاحترام فيما بينهم، ولكن مما لا شك فيه أن هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون هو الأسلوب الأنجح في الحفاظ على علاقات الاحترام تلك. ذلك لأنّ الإنسان بما جبل عليه من حب الذات وتقديس لمصالحه الخاصة وأطماعه الذاتية التي تتمثّل في حب المال والجاه والسلطان على اختلاف مصاديقها! ذلك الإنسان سوف لن يقنع مع غريزة الطمع تلك بما في يده بل ستمتد يده وعينه إلى ما متّع به غيره وستنفجر غريزة حب الذات تلك لتصيب بشررها حقوق ومقدسات الآخرين. من هنا نشعر بضرورة وجود رقابة على ذلك الإنسان لتحصي عليه تصرفاته إن كان فيها اعتداء على الآخرين أو إجحاف بحقوقهم. هذه الرقابة نتصورها على ثلاثة طروحات:
الطرح الأوّل: الرقابة الخارجية وتتمثل بإيجاد مراقب خارج ذات الإنسان كشرطي أو سلطة – كسلطة الدولة مثلاً – أو أية قوة أخرى قاهرة وملجمة لتصرفات الإنسان التي تخفي اطماعاً وغايات شريرة وعدوانية، لذلك نجد كثيراً من التشريعات القصاصية تتمثل بعقوبات قد تشتدّ وتخف حسب عظم الجريمة المرتكبة أو خفتها. فقد يتراوح القصاص بين غرامة مالية أو حجز حرية من خلال حكم بالسجن أو قد تصل إلى قتل أو بتر عضو حسبما يرتئيه المشرع الديني أو المدني في ذلك.
هذه الرقابة الخارجية إذن موضوع عملها هو تصرفات الإنسان في الخارج وردعه عن نشر الفساد، دون إمكانية معرفة ما يدور في خلده من مشروع فعل صالح أو طالح، إذ أن ما يفعله في الخفاء قد تتمكن هذه الرقابة من ضبط بعض الأمور فيه بحسب قوتها وقدرة أجهزتها، ولكنها على كل حال تبقى عاجزة عن اكتشاف ما يمكن ستره داخل النفس الإنسانية، ولذلك كان دورها فقط دور الرادع الخارجي الذي يحكم على الأمور بحسب ظاهرها لا بحسب واقعها.
الطرح الثاني: الرقابة الداخلية: وتتمثل بإيجاد تربية صالحة تركِّز على إيقاظ الضمير داخل كل فرد والشعور بأهمية المحافظة على حقوق الناس: إما احتراماً لذاتها أو لأن ذلك مقدمة وباعثاً لاحترام الآخرين لحقوقه الخاصة من باب المبادلة والمعاملة بالمثل. ولا شك أن عملية إحياء هذا الضمير وجعله مراقباً صالحاً تتطلب تربية عالية ومكثّفة تكون أهم نتائجها قتل بذور الشر وإماتة روح العدوان والطمع وتركيز إحترامه للناس تركيزاً كبيراً يغدو معها المرء أشبه بملاك لا يضمر الحقد أو الطمع لأحد ولا يتربّص الدوائر بالآخرين.
ويمكن لهذه الرقابة، أن أُحسن تهذيبها، أن تتدخل لتصحيح الدوافع لهذا العمل أو ذاك وبالتالي صدوره عن نية طيبة وصفاء داخلي لا يضمر الشر لأحد.
هذان الطرحان: الرقابة الخارجية والداخلية لا شك أن لهما أثراً كبيراً في ردع الإنسان عن فعل كثير من أعمال الشر والمعصية، ولكن لنا أن نتساءل: لو قدر لإنسان أن لا ينال حظاً من التربية الصالحة التي توقظ في داخله رقابة الضمير واحترام حقوق الناس – لو قدر لهذا الإنسان أن يفقد سلطة الدولة من الخارج وسلطة الضمير من الداخل واستطاع التغلب عليهما بما لديه من مال أو جاه أو سلطان، فكيف يصبح حال المجتمع آنذاك؟ أفلا يتحول حينئذ إلى غابة من الوحوش يأكل القوي فيها الضعيف دون رادع أو مقاومة. إزاء هذا الاعتراض وعدم وفاء سلطتي الدولة والضمير بإصلاح هذا الإنسان نشعر بقيمة الطرح الأخير وهو:
الطرح الثالث: الذي يجمع بين الرقابتين الخارجية والداخلية وتلك هي الرقابة الإلهية فهي خارجية لأنها سلطة أعدت لكل جريمة عقاباً ولكل ذنب إثم وتوعدت العاصي والمعتدي على حقوق الآخرين بعقاب في الدنيا قد يكون سجناً أو قتلاً أو غرامة مالية وفي الآخرة جهنم يحياها وبئس المصير، فهي إذن عقاب وقصاص. وهي رقابة داخلية أيضاً لا يخفى عليها شيء من خطرات الفكر والأعمال الخفية التي يمارسها المكلف بعيداً عن سلطة الدولة والضمير. فمهما حاول التخفي والتكتم فإنّه سيشعر بأنّه واقع تحت المجهر ومراقبة الله له: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). وعلى هذا فلو استطاع إغفال السلطة الخارجية، فسيشعر هذا الإنسان بأنّه واقع تحت أعين الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران/ 5)، (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه/ 7). وفي ذلك يقول القرآن الكريم عن هذه الرقابة الإلهية في سورة المجادلة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة/ 7). وفي سورة ق: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16).
ترى هل يستطيع الإنسان أن يفر بعد هاتين الآيتين من رقابة الله وملاحظته.
هذه الرقابة الإلهية حينما يشعر بها الإنسان ويؤمن بها تحُدث لديه حالة من الخوف من مخالفة القانون وتخلق عنده حالة من الفزع من الله سبحانه عندما يخالف شريعته وقانونه وبالتالي تنشأ عنده ملكة التقوى كما عرّفنا الامام الصادق (ع): "أن لا يفقدك حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك" ملكة التقوى هذه هي التي تحيي في نفسه تلك الرقابة الإلهية الصارمة فلا تدعه يفكر في ارتكاب ذنب مهما صغر، باعتبار أن ذلك الذنب له تأثيران متلازمان بما يترتب عليه من فساد:
أوّلاً تأثير الذنب على نفس الإنسان، إذ ينقلب إلى أناني يعيش لذاته وأطماعه فلا يفكر بعدها إلا بما يجلب المنفعة لشخصه فتموت في نفسه روح إحترام القانون يجري التحايل عليه ويغدو انساناً محباً للمعصية ويصبح ارتكاب الذنب عنده من أبسط الأشياء نتيجة تهاونه واستهتاره، فتحدث كما تشير بعض الروايات ظلمة في القلب وهو تعبير آخر عن التهاون وعدم احترام حقوق الآخرين، وتموت روح مقاومة المعصية عنده فينهار أمام أبسط الاغراءات أو أيّة إثارة غريزية وبالتالي يغدو إنساناً يمكن أن يباع ويشترى بأبخس الأثمان وينعكس أثره على مجتمعه فضلاً عن نفسه
ثانياً: تأثير الذنب على المجتمع: إذ أنّ الإنسان الذي ماتت فيه ملكة التقوى التي تمنعه عن ارتكاب المعاصي سوف لن يحدث فساداً على المستوى الشخصي فقط بل أنّ فساده ذاك سيطال أفراداً عديدين من المجتمع إن لم يكن المجتمع بأسره، باعتباره حالة شاذّة منحرفة في مجتمعه فسينعكس سلباً عليه وعلى هذا الأساس نفهم الحديث الشريف: "من سنّ سنّة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".. باعتباره مسؤولاً عن ذلك الفساد الذي نشأ عن سنته السيئة. ومن هنا فلو تكرّرت حالات الانحراف هذه بين أفراد عديدين فستكون النتيجة انهيار ذلك المجتمع، وما ذلك إلا بسبب موت ملكة التقوى عند كل فرد. ويحدثنا القرآن الكريم عبر آيتين عن مجتمعات بادت واندثرت بسبب انحراف أفرادها وغدت في طيات التاريخ لأنها لم تتحصن بإحترام القانون وإبعاد الفساد عنها، ففي سورة النحل نقرأ الآية المباركة: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112). وفي سورة الروم: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا…) (الروم/ 41). وكذلك حديث الامام علي (ع) وهو يتحدث عن أثر الذنب في انهيار المجتمع فيقول (ع): "وأيم الله ما كان قوم في خفض عيش فزال عنهم إلا بذنوب اقترفوها لأنّ الله ليس بظلام للعبيد". فنفهم من هذا أنّ المؤمن الذي يمارس عملية التقوى والخوف من الله يشعر وهو يحاول ارتكاب الذنب أنّه لا يحدث فساداً على المستوى الشخصي فقط بل ذنبه ذاك سيؤثر على مجتمعه ويتسبّب في إنهياره.
من هنا كانت تسمية التقوى بأم الفضائل وأساس الصلاح، اذ عليها يتوقف بناء الفرد وبالتالي بناء الجتمع.
على هذا الأساس ندرك أهمية دورها والحث عليها وأنها ممارسة للحياة بمسؤولية وأنها شعور الإنسان بحضور الله عند كل عمل وعلاقة في أي مجال من مجالات الحياة العامة أو الخاصة:
ففي القضايا الاجتماعية: لابدّ من التقوى في كل كلمة يتفوه بها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (الأحزاب/ 70).
وفي كل تصرف من تصرفات الإنسان الصغيرة والكبيرة:
(وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة/ 2).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة/ 189).
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال/ 1).
وفي القضايا الاقتصادية: لابدّ من التقوى في معاملات البيع والشراء واكتساب المال من طريق الحل لا من أي طريق كان:
(لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 130).
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3).
وفي القضايا السياسية: لابدّ من التقوى عند أولئك الذين يملكون زمام السلطة أو أي نوع من أنواع السلطان فيشعر بمراقبة الله له في كل حركة وسكون. وخاصة عند حمله السلاح حيث يشعر معه المرء الضعيف بكثير من القوة فيستطيع ظلم الناس وقهرهم وإذلالهم ولعل من المفيد ذكر قول الرسول (ص) المنسوب إليه: "العدل أساس الملك" حيث يوازن صاحب السلطة – ملكاً أو غيره. بين مصالحه ومصالح الناس فيشعر – إن كان تقياً بمسؤوليته أمام الله عن دمائهم وأعراضهم وأموالهم وهي من أشد الأشياء التي أوجب الله سبحانه وتعالى فيها الاحتياط مهما أمكن، وإن كان شقياً أهلك الحرث والنسل وملأ الدنيا ظلماً وجوراً وكان عاقبة أمره إلى زوال، ككثير من الحكومات عبر التاريخ.
كذلك لابدّ من التقوى في كل القضايا الخاصة حيث يحاول المرء تبرير عمله بعد أن يؤديه وفق شهيته وشهواته دون مراعاة تكليفه المطلوب لابدّ من التقوى التي تمنعه من استغلال فرص الحرام والتحايل عليه كما نسب للإمام علي (ع) قوله: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله، فيدعها رأي العين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".
وفي كل القضايا الصغيرة كما في كل القضايا الكبيرة لابدّ أن تتمثل التقوى كما في الحديث الشريف المنسوب إلى الامام الصادق (ع): "خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، وإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت ترى أنّه يراك ثمّ برزت إليه بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين إليك".
وأخيراً، في زمن طغت عليه المادة والشهوات لابدّ أن نعظ أنفسنا بتقوى الله والشعور بها وملازمتها إيماناً، فلا يكفي لأحدنا أن ينتسب للإيمان بفكره فقط ككثير من مسلمي هذا العصر حيث يدافع عن إسلامه بحماسة واندفاع بل ويدعو إليه ولكنه إسلام لا يتعدى الفكرة أبداً، أما التطبيق فهو بعيد كل البعد عنه. إنّه يفتقر إلى التقوى التي تمثل جانب التطبيق العملي للإسلام كما أشار إليه الحديث النبوي السابق: "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وفر في القلب وصدّقه العمل".
لابدّ من التقوى، من أن تمارس يومياً فتتحول تلقائياً إلى مراقب واع، لنا، علنا نصل بعدها إلى مرتبة أعلى وهي مرتبة الورع والإحتياط حيث يترفّع الإنسان عن تناول ما اشتبه حاله رغم معذوريتنا الشرعية لدى الله في تناوله ولكن الاحتياط طريق النجاة – كما قيل -. أن نعيش همّ مسؤوليتنا أمام الله والناس والتاريخ في ما نعمل ونقدم؛ أن نكون من أنفسنا في تعب وعناء كما يقول الحديث الشريف.
بناء الإنسان المؤمن إذن يبدأ من التقوى ويزول إيمانه بزوالها وعليه يتوقف بناء المجتمع الفاضل الذي عبر عنه القرآن الكريم: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران/ 110)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 18-20).
اللهم اجعلنا من الذي يخافونك