النّورية
تاريخ النشر: 28/08/16 | 2:18ذات مساءٍ حينما كنتُ أسيرُ على الشاطئ كعادتي في أيام الصَّيف الحارّة، تعبتُ من سيْري، وجلستُ على ربوةٍ رملية، وكانتْ نظراتي في ذلك الوقت ترتمي صوبَ البحرِ الهائج، كانتْ الموجات تصلُ إلى قدميّ، فأشعر بانتعاشٍ من مياهِ البحر المُضطرب، وبينما كنتُ جالساً هناك شاهدتُ مجموعة من النّساء والرّجال كانتْ تسيرُ باتجاهي، فنظرتُ صوبَ المجموعة ورأيتها تقتربُ منَي بكُلِّ تمايلها، وراحتْ تحلّق حولي، فوجدتُ نفسي في وسطها.
وبعد دقائق بدأ الرجال يُخرجون آلاتٍ موسيقية من إيقاعٍ ونايٍ وقيثارة، وكانَ يسوّي كُلُّ واحد منهم نوتته، فرأيت المجموعة بدأت تتهيأ، والنساء ارتدين التّنانير المُلونة ذات ألوان فاقعة، وكانتْ تُشبه تنانير غجر اسبانيا، وفي لحظة، وجدتُ نفسي وكأنني أمام مهرجانٍ، فلمْ أكنْ أتوقّع أنْ أُصادفَه في هذا المكان..
بدأتْ المجموعةُ تعزف مواويلا، ومِنْ ثمّ بدأ العزفُ المُصاحب للغناء، حيثُ بقيتُ جالسا وأنظر صوبهم، وكنتُ أرقبُ ذلك في اندهاشٍ، وبعد لحظاتٍ نقرَ صاحبُ القيثارة على أوتارِها نغماتٍ موسيقية رائعة، سلبتني عقلي، وثمّ انطلقَ صوتُ أحدِ الرجال بأغنية، فتمايلَ على ألحانِها.. والنساء تهيأن بُسرعة، اندفعتْ إحداهن إلى وسطِ المجموعة، رقصتْ بحركاتٍ كحوريةِ بحرٍ، وردّتْ بغناء، كأنّه تغريدُ البلابل..
في رقصتِها ضربتْ بيدِها ورجلِها، ودارتْ على نغماتٍ متناسقة، وانسابتْ لسمعِي.. انهمكتْ المجموعةُ في أداءِ الأُغنية، فشاهدتُهم جميعهم كانوا يعزفون وينشدون ويرقصون دون سابق إشعار، فتوسّطتُ المجموعة، وصفّقتُ ورددتُ على الإيقاعِ الموسيقيّ، وبعد ذلك بدأتُ في مُراقصةِ النّورية، ورقصتُ معها بمهارةٍ عادية، وأبهرتُ كُلّ العازفين، وردّدتُ بصوتٍ مبحوح، وبنشوةٍ زائدة لمْ أعتدها.
اقتربتُ منها وقلتُ لها: يا نورية ألا تأتي لترقصي معي مرة أُخرى؟
اندفعتْ النساء الأُخريات وشاركنني والنّورية الجميلة الرّقصَ على الإيقاعِ والصّيحات، التي كانتْ تحدثُها المجموعة، واستمرّتْ الرّقصات وتناوبتْ على مُراقصتي الواحدة تلو الأخرى، وفجأةً أثارَ منظرَ الغروبِ شجونه، واتّجهتُ بنظرِي إلى طلوعِ القَمر، الذي كانَ يطلُّ شيئاً فشيئاً في سمائه.
وقفتُ متأملا المشهد، لقد سبقَ أن شاهدته من قبل، فاندهشتْ نفسي، وكأنّني أشاهدُ ذلك لأولِ مرة، لكن هذه المرة إحساس غريب كانَ يُناديني في أعماقي، أهو إحساسٌ باللّذة والمُتعة التي، تقاربُ على الانتهاء، حيثُ انتهى القَمرُ وراء الغيوم، أمْ شعورٌ بالخيبةِ التي حرّكتْ دواخلي وتجثمُ اللّحظة على أنفاسي؟
استفقتُ مِنْ مُتعتي وتبيّن لي، بأنّني لمْ أعدْ أصلح لما قمتُ به وفعلتُه، فليس أنا الآن في سنِّ المجموعةِ حتى أحذو حذوها، كانَ عليّ أنْ لا أرقصُ مع تلك النّورية، ولا أنْ أُغنيَ مع المجموعة، لقد غابَ عنّي أنّ الشّيبَ طلي شعْري بالبياضِ والتّجاعيد توشّمتْ على وجهِي السّنون.
جلستُ قبالة البحر، تأمّلتُ العتمةَ القاتمة، التي كانتْ تلفُّ البحرَ، والسُّكون الذي كانَ قدْ عمّه قبل قليل، مشهدٌ كنتُ أقرأ فيه من كتابِ حياتي، المجموعةُ قد باتتْ تنصرفُ في هدوء، حيث غبتُ أنا في تأمّلي وتفكيري، ولمْ أعدْ أدركُ ما يدورُ حولي، ولا أحسستُ بما يتراءى أمامي، غبتُ في تفكيري، كما غابَ القمرُ خلف الغيمات، وحلّ الظّلام بعد الغسَقِ وسكنَ المكان.
في صباح اليوم التّالي، كانتْ مجموعة من النّاسِ تحلّقُ حول رجُلٍ مُسنّ، وجدوني جثةً هامدة على تلك الربوة، لكن قبل موتي تذكرتُ النّورية، ورأيتُ قبل موتي البحرَ وهو يزدردُ الشّمس، ابتلعَها كما ابتلع الحتفُ حياتي أنا الرّجُل العجوز..
عطا الله شاهين