طابون الجدّة علياء
تاريخ النشر: 01/12/13 | 2:44للطابون في حياتنا وفي ذاكرتنا موقع خاص ومُمّيز ففي ذكر أسمه عبق الماضي والحنين إلى الماضي كذلك، رغم قساوة ذلك الماضي وشراسته وضنك الحياة والعيش فيه، وليس صدفة أن اختارت الكثير من المطاعم أيامنا هذه (الطابون) أو (المنقل والطابون) أو (طابون زمان) أسماء لها تجذب معها الآكلين إليها خاصة الرعيل الذي عايش الطابون وعاصره.
وأما خبز الطابون والمصنوع من القمح الخالص والخارج لتوّه من الطابون ذي الرائحة المنعشة والنكهة والمذاق الممّيزين كلها أشياء تُثير في نفوسنا الذكريات، ذكريات الطفولة حين كُنا أطفالاً صغاراً نتخطف أرغفة خبز القمح الخارجة لتوّها من قحف الطابون نلتهمها إلتهاماً إما ناشفة أو مبللةً بزيت الزيتون مع قليلٍ من ملح الطعام. أما (صواني) الطعام المختلفة المطعّمة باللحم أو بدونه فكانت لها نكهات ومذاقات مميزة ندر أن تجدها اليوم في (الصواني) المُعّدة في الأفران الكهربائية أو التوسترات، لذا فقد كان الطابون رُكناً رئيسياً وأساسياً في النظام الهرمي للأكل فهو في قمّة الهرم، ولم يخل بيت من بيوت قريتي آنذاك وحتى قبل نصف قرن ونيّف من طابونه الخاص.
وكانت الطوابين في قريتي تنتشر على طول الطرقات والأزقّة وعرضها، ونادراً ما تجد طابوناً تشترك أسرتان أو أكثر فيه. أنا طابون أيام زمان فكان عبارة عن بناية متواضعة خارج بيت الأسرة وغالباً ما يكون بجانبه أو ملاصقةً له ما يُسمّى (بالمتبن) الذي كانت تُخزن داخله الموّاد التي تستعمل في تسخين الطابون وتزويده بالحرارة اللازمة من خلال حرق هذه الموّاد والتي غالباً ما تكون من قشَ أو تبنَ، بعد أن تُفصل عنه سنابله التي يُستخرج منها الحب أو(قَصَلْ) (أي عيدان) الذرة البيضاء.
وكان للطابون وبالإضافة إلى دوره في إنعاش المعدة دور اجتماعي لا تقّل عن دوره المعدي، إذ كانت تلجأ الأسرة أو بعضها إليه في فصل الشتاء طلباً للدفء وهروباً من زمهرير الشتاء وذلك لانعدام وسائل التدفئة آنذاك اللهّم إلا من الكوانين، وكثيراً ما انضّم إلى أفراد الأسرة طلباً للدفء بعض الأقارب والجيران والمعارف. أما في بقيّة فصول السنة فكانت تتخذ الساحة حول الطابون، هذا إن وُجدت لمّة (اجتماع) لنساء الحارة.
وفي حارتنا أو قُل (حوشنا) الذي تميّز بكثرة طوابينه، كان هناك طابون ذا مكانة خاصة ومُميزة كان يحمل اسم صاحبته الجدّة علياء فكلنا نقول لأترابنا عندما كنّا لا نجد مكاناً نذهب إليه (هيا نذهب إلى طابون ستّي عليا).
ظلّت صورة ومحبة هذا الطابون راسخة في أذهاننا وذاكرتنا ولا زال اسمه يترّدد على ألسنة من عايشوه وما زالوا على قيد الحياة (وهم قلّة)، كانت تجتمع حوله في الساحة الدائرية التي تلفّه نساء الحارة خاصة في ساعات الأصيل وقُبيل غروب الشمس لتمتّد أحياناً إلى ساعات متقدمة من الليل، كنّا أطفالاً في الأربعينيات المتقدمة من القرن الماضي نتردّد إليه، نسترق السمع أحياناً لما يدور في ساحته من أحاديث وحكايات وأخبار عن قريتنا وغيرها من القرى، أو لنحظى بمنقوشة أو برغيف خبز ساخنٍ خرج لتوّه من الطابون أو قرص (رغيف) زعتر أو قرقوشة سمسم حلوة المذاق.
وكان لطابون الجدّة عليا ميزة خاصة تميّزه عن سائر الطوابين حيث يقع في وسط ساحة دائرية الشكل، وعلى حّواف هذه الدائرة ستّة منازل جميعها ومن ضمنها الطابون مبنية من الحجارة الطين والقش، كانت تجتمع أمام هذا الطابون نساء الحارة يتجاذبن أطراف الحديث.
أما عنصر (الجدّات) فهو ميّزة أخرى للطابون، لأن غالية (الجَمْعة) كانت من عالم الجيل الثالث أو الجيل الذهبي، أذكر منهن الجدّات: زريفة، زهرة، حفيظة، وأم راجح رحمهن الله رحمة واسعة ورحم الله الجدّة عليا، ورحم معها أيام زمان، أيام كان للطابون مكانة خاصة وأهميّة كبيرة في حياة الأسرة القروية.
أما طابون اليوم فما هو إلا مجرد اسم وأداة لجذب الزبائن لما لهذا الاسم التراثي من سحرٍ وحنين إلى الماضي.
· الجدة علياء هي المرحومة أم مصطفى زوجة المرحوم عبد اللطيف صالح أبو بكر من باقة الغربية. أصلها من قرية خبيزة المهجرّة (في الروحه)
أحيّي أبا إياد على طرحه مثل هذه الموضوعات التي تُعيدنا لذكريات الماضي الجميلة، حيث الألفة والحميمية والتواصل المباشر بين الأجيال.
بورك يراعُك الذي أمتعنا بهذا الوصف الدقيق والتصوير المشوّق للطابون الذي كان معلمًا بارزًا من حياتنا وتراثنا.