قلبُ الأمّ لا ينام
تاريخ النشر: 02/12/13 | 23:04عقارب الساعة تتحرّك ولا تتوقّف، بعد قليل سيلتقي العقربان ليعلنا منتصف الليل، والأمّ ما زالت ساهرة لا تشعر بالنعاس.
كانت مستلقية على السرير، تحاول مرارًا الخلود للنوم، لكنّ الرسالة الأخيرة من ابنها وحيدها كانت، كما يبدو، هي السبب في جفاء النوم!
بعد أسبوع سيحلّ عيدُ ميلادها، ستبدأ السنةُ الجديدة الأولى من عمرها بعد العقد السادس!
صحتها لا تزال مقبولة رغم ما ألمّ بها من حزن وهموم بعد رحيل زوجها المفاجئ قبل عامين ضحيّة حادث طرق مروّع.
تشعر ببعض الأوجاع في المفاصل، ظهرها بدأ بالانحناء، والشيب بدأ يشتعل في الشعر الاسود الفاحم، والتجاعيد شرعت تغزو قسمات وجهها الجميل، نظراتها صارت تخونها في بعض الأحيان عندما تحاول إيواء الخيط في الإبرة..
لكن ذاكرتها ما زالت قوّيّة حادّة باترة كالسكين!
تعاود النظر إلى رسالة ابنها التي بعثها من بلاد الغربة، تكرّر قراءة سطورها التي كتبها بخطّ يده الذي تحبّه، وتمعن التأمّل بالصورة المرفقة بالرسالة التي يظهر فيها ابنها مع زوجته مارجريت وابناه الوسيمان خالد وناريمان، تقرأ كلمات الرسالة وتتفرّس بالصورة فتحسّ نبضات قلبها تتسارع، وتتساقط الدموع الساخنة.
لا تدري، هل هذه دموع الفرح والسعادة أم دموع الحزن واللوعة!
ليست هذه الرسالة الأولى التي تتسلّمها من ابنها، وليست الصورة الوحيدة التي يرسلها لها، فقد اعتادت أن تتقبّل منه كلّ سنّة مثلهما أكثر من مرّة.
تمالكت نفسها وأعادت قراءة الرسالة:
"أمّي الحبيبة،
بعد الاطمئنان على صحتك وأحوالك يسعدني أن أبشّرك بحصولي على جائزة التفوّق الدوليّة عن الأبحاث التي أجريتُها حول أمراض القلب، واسمحي لي أن أهدي هذه الجائزة لك – أطال اللهُ في عمرك -ولروح والدي- طيّبّ الله ثراه -، فبفضل رعايتكما وحبّكما أعانني الله في دراستي وفي أبحاثي، ووفّقني في حياتي الزوجيّة.
أمّي الغالية،
كم أتذكّر العبارة التي كثيرًا ما سمعتُها تتردّد منكما: ما تزرع تحصد!
واليوم جاءت الجائزة تشهد على صحة حكمتكم، وها أنا أجني وأحصد ما غرستم في نفسي الغضّة من الطموح وحبّ المعرفة والمثابرة!
أمّي الحنون!
أقبّل يديك الطاهرتين أنا والحفيدان المحبّان والزوجة الفاضلة.
ابنُك البار".
من جديد، أخذت دموعها تتساقط، وأنفاسها تتقطّع، وخيّل لها أنّها تسمع هاتفًا يطنّ في أذنيها:
أصحيح أنّ ما نزرعه نحصده؟!
هل ما زرعناه في ابننا الغالي هو ما نحصده بالفعل؟!
إنّها تحسّ أن الزمن يمضي، وها هي تتقدّم بخطى حثيثة إلى الشيخوخة الجليلة، وربّما إلى أرذل العمر -لا سمح الله- وابنها وحيدها بعيد عنها هناك في بلاد الغربة، لكنّه قريبٌ منها هنا في القلب، قلب الأمّ الذي لا يسهو ولا ينام!
رفعت الرسالة والصورة عن الفراش، احتضنت الرسالة، قبّلت الصورة، مسحت دموعًا حارّة، انتابتها نوبة من الحنين الدافق، شعرت فجأة بالتعب، فغابت في شبه غفوة لذيذة، وراودها حلمٌ جميل؛ إنّها تحتضن وليدها الصغير وتغنّي له التهليلة التي يحبّها!
كلام حلو بكيت انا اقرأ تذكرت والدتي شكرًا لك على هذا الكلام الجميل
القصه جميله جداً شكراً للك
لا استطيع التعبير عن مدى احترامي وحب المتابعه لما تكتب انت مميز بكلامك الحنون الدافئ شكرا دمت ذخرا لبلدك واهلك
خاطرة جميلة ومؤثرة. بعض العواطف الإنسانية تبقى مادة لا تنضب للنصوص الأدبية، نثراً وشعراً، وللأعمال الفنية إجمالاَ. أحاسيس الأمومة في مقدمتها.
كثير من عناصر الخاطرة أعاد إلى ذاكرتي النّص الأدبي”في انتظار أمين”، وهو أحد النّصوص الأدبية في منهاج المرحلة الاعدادية في أواسط سبعينيات القرن العشرين. فالثيمة والشخصيات والمشهد والأجواء الخلفية للحالة الانسانية في المحور هي ذاتها في النّصين، والأهم أنّ الانفعال والحسّ اللذان رافقاني في القراءة هما ذاتهما في النّّصين كذلك، وللأمانة أقول بل جاءا أكثر عمقاُ وقوةً خلال قراءتي “قلب الأم لا ينام”، ربما بفعل تجربة الأمومة، وربما هي النهاية المغايرة التي اختارها الكاتب، د. محمود، والتي جاءت أكثر توفيقّا، برأيي المتواضع، وربما كلتاهما.
تحياتي
د. تغريد يحيى- يونس
جزيل الشكر والامتنان للتعقيبات الدافئة التي تمدّني بالعزيمة لمواصلة العطاء، وبصورة خاصّة أحيّي د. تغريد يحيى – يونس على قراءتها الحصيفة للنصّ، والتي سبرت أغواره، ومنحته نكهة محبّبة للنفس!