لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَق الصبِرا
تاريخ النشر: 08/09/16 | 15:35ثمة أبيات شعرية لا يُهتدى إلى قائلها بيسر، وهي واردة في أكثر من مصدر، ومن هذه الأبيات:
…
دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا***جَهْدَ النفوس وألقَوا دونه الأُزُرا
وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرُهم *** وعانقَ المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرا
لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُه *** لن تبلغَ المجد حتى تلعَق الصَّبِرا
يقول من استشهد بها:
قال هارون بن موسى النحْوي: أنشدنا أبو علي البغدادي……
القفطي- “إنباه الرواة على أنباه النُحاة ” (3 / 362 – 363)
…
“أنشدنا”، ولا يعني ذلك أنه من شعره.
ورد في “نفح الطيب” للمقَّـري:
“ومن فوائد الباجي أنّه حكى أن الطلبة كانوا ينتابون مجلس أبي علي البغدادي واتفق أن كان يوماً مطرٌ ووحل، فلم يحضر من الطلبة سوى واحد، فلمّا رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده… (الأبيات)
(انظر: ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي)
…
في مصادر أخرى:
“وقال بعض الأعراب”،
“وقال آخر”،
وفي كتاب (مثالب الوزيرين) لأبي حيّان التوحيدي “وقال الشاعر”- ص 93.
وفي (الأمالي) لأبي علي القالي (ج1، ص 113) ورد ما يلي:
قال أبو علي: وقرأت على أبي بكر بن دُرَيد لبعض العرب…..
إذن، فالجواب ليس في “الجيب”، وهو مجهول حتى هنا.
مع ذلك، ومن خلال قراءاتي المختلفة مرّ معي اسم (حَوط بن رِئاب) أنه هو الشاعر، وهو من بني أسد، والنسب يتفق وما ورد في “شرح الحماسة” للمرزوقي أن الشعر لبعض بني أسد، لكني لم أستطع أن أهتدي إلى مصدر لمعلومتي، لذا ظلت أهمية البحث في خلَدي.
…
إليكم مَن كشف اللغز في مدوَّنته، وهو الأستاذ الباحث زاهر الهنائي- الأكاديمي في جامعة السلطان قابوس، وهذا يدل على أن بعض المواقع والمدونات فيها الغَناء.
في مدونة زاهر الهنائي (مارس 2012) وردت هذه القصة التي تشير إلى اسم الشاعر، وأصل الحكاية أقتبسها لكم:
“لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ *** لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرا
“كنت قد بحثت عن قائله مدة من الزمن ولما أعياني البحث تناسيت أمره، وذات يوم وأنا أقرأ في كتاب من كتب اللحن اسمه “المدخل إلى تقويم اللسان” لابن هشام اللخمي- صاحب شرح الفصيح المتوفى سنة577هـ وتحديدا في صفحة 111، وجدت البيت يُذكر في معرض الرد على صاحب “تثقيف اللسان”- ابن مكي الصقلي عمر بن خلف المتوفى 501هـ في تخطئته نطق كلمة (صبِر) التي تعني عصارة شجر مرٍّ (القاموس المحيط) بتسكين بائها وحقها الكسر، ويأتي ابن مكي بالبيت شاهدًا على كلامه، ولكنه لم يذكر قائل البيت إذ اكتفى بقوله:
“قال الشاعر”، وكذلك لم يتعرض ابن هشام له.
..
من حسن الحظ أن يوثق المحقق الأستاذ الدكتور حاتم الضامن البيت، فيشير إلى قائل البيت أنه (حَوْط بن رئاب الأسدي)، ويذكر المصدر الذي ورد فيه القائل وهو “سِمط اللآلئ في شرح أمالي القالي” للبَكري تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي توفي سنة 1399هـ/ 1978م. [.. …….]
فلما أتى البكري على هذه الأبيات وهو في معرض شرحه للأمالي ذكر القائل، بدأت أبحث عن هذا الشاعر فوجدت في “الأعلام” لخير الدين الزَِرِكْلي المتوفى سنة 1976م ترجمة موجزة عنه، وذكر أنه شاعر مخضرم اشتهر بأبي المُهوِّش (هكذا ضبطه بكسر الواو) توفي سنة 15هـ، […….].
وفي الهامش من الأعلام يرجع إلى “سمط اللآلئ” للبكري، و”الوحشيات” لأبي تمام، و”الإصابة…” لابن حجَر.
رجعت إلى “الوحشيات” وهو الحماسة الصغرى لأبي تمام المتوفى سنة 231هـ بتحقيق عبد العزيز الميمني، فوجدت أن أبا تمام أورد لأبي المهوش حوط بن رئاب الأسدي بعض أبيات لا تزيد على الستة حيث أورد قطعة من خمسة أبيات مع ذكره للبيت الأول رواية أخرى، ولم يورد الأبيات الثلاثة، وفي الهامش يقول المحقق:
” خرجناها بما لا مزيد عليه في السمط”، ولا أنسى أمر ضبط كنية الشاعر في “الوحشيات” فقد ضبطت بفتح الواو (أبو المهوَّش) في حين أن صاحب الأعلام ضبطها بالكسر، وفي “الإصابة…” لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ ذكر ما نصه: ” حوط بن رئاب الأسدي الشاعر: ذكر أبو عبيد البكري في شرح الأمالي : أنه مخضرم، وهو القائل:
ونَيت للمجد والساعون قد بلغوا * جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
[……]، وقد رأينا أن رواية البيت الأول : (دببت…) في أمالي القالي، وقد أورده في الإصابة: (ونيت…)، [ …..]
بعد هذه التطواف نخلص أن البيت لأبي المهوّش حَوط بن رئاب الأسدي اعتمادًا على البكري في سمطه، وأن صواب قراءته أن نكسر باء (الصبِِـرا)، لا أن نسكنها، إذ معنى الصبِر هنا عصارة شجر مرٍّ ومِنْ ثَمَّ هو يُلعق، ولا مجال لـ(الصبْر) في البيت معنى ووزنًا.”
….
من الجدير ذكره أن شاعرًا عُمانيًا عاش أول القرن العشرين يُدعى سعيد بن مسلم وكنيته أبو الصوفي كان كاتب السلطان فيصل بن تركي، وله ديوان مطبوع- استخدم أبيات حَوط دون أن يُشار إلى ذلك في تخميسه:
ما بالهوينا ينال المجدَ آمله *** منيعة صعبة المرْقى منازله
لا يدرك المجدَ من لانت مآكله *** لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبِرا
….
وأخيرًا،
يذكرني البيت بآيتين كريمتين تريان وجوب الامتحان والابتلاء، فليست الأمور تؤخذ بيسر وبهينة، إذ يقول تعالى:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة:214)
وفي آية أخرى من (سورة العنكبوت 2):
{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}؟
ب. فاروق مواسي