التّخيّل

تاريخ النشر: 14/09/16 | 13:29

كانت تمسك بيدها وتضغط على زندِها وهي تطوفُ معها في المدينة المزدحمة. فلم يبق للعيد سوى أيام والناس في حيوية شديدة لاستقباله بشيء مغاير، وبالرغم من أنّ الموسمَ خريف، والغيوم البيضاء تشير كل لحظة بالرذاذ، إلا إن الجوّ كان لطيفا. لذا كانت حركتها وهي تمسك بزندها، متأنية، وبغتة وجدت نفسها أمام شجارٍ كبير، بين نساء لم يتبين سحناتهن لكثرة الزحمة.
تسمّرت مندهشة وارتخت مسكة يدها من الرعب، فهي تخاف المشاجرة، ولم تختبرها طوال حياتها. وعندما هدأت نفسها، رجعت تمسكها بيدها فوجدتها فارغة. ألقت بنظرة صوبها فلم تلقاها. جن جنونها وأوشكت أن تسقط على الرصيف، ولكنها تماسكت وجرت في شوارع المدينة المزدحمة، وتشق الزحام من حولها بيديها وكتفيها وصدرها كغريقة تحاول النجاة. كانت تنادي تنادي عليها بحرقة وتلف، وتسأل كل من تراه. تحدق بالمارّة بشكٍّ وكأنها تفتش عنها بين أيديهم وفي طيات ثيابهم.
وما أدركتْ أن أنهكها الإعياء، فوضعت هامتها على سورِ احد المحلّات، وأخذت تتضرع. قالت أنتِ الغيوم البيضاء تصطخبين كروحها وتدمدمين كنبضات قلبها المتوجع. وبدأت الغيوم ترذّ رذاذا خفيفا ، خنعت له وهو يرطّب شعرها الأسود وينساب ليغطي وجنتيها، مما حثّها على النحيب. لقد ناحت مدة طويلة. وفي المنزل روت ما حدث فلم يبالي لها أي أحد من أسرتها.
وحينما ناحت مرة أخرى، شاهدت العذاب بسحنة زوجها وبناتها الكبيرات، بينما راح طفلها الصغير يضحك ثم يفرّ من أمامها. كانت تفكر بالحادثة باستمرار، وتشاهد الكل في محيطها كأن الأمر لا يخصّهم. وفي النهاية قررت بأن تقوم بالبحث عنها، فراحت تخترع الحجج لكي تخرج من المنزل. وإذا صدتْ، انسلّتْ خفية في غفلة من الجميع. أن تتتوه على سحنتها في المدينة المزدحمة كعادتها المتشعبة الشوارع. فتدخل المحلات، تبحلق بالسحنات، تسأل أصحاب المتاجر وتسير في الطرقات، تقرع الأبواب بأعذار غريبة.
تترقب في الميادين علّها تلاقيها. وكلما آبت استقبلها بناتها بنظرات شكاكة، وصاح بها زوجها وطلب منها أن تكف عن هوسها. ومرت السنين أوهنت فيها الأيام ذاكرتها فباتت لا تتذكر تفاصيل الحادثة بالضبط. ولكنها لم تكف عن البحث، وكانت تقصّ لمن يلاقيها ما تتذكر منها، وتغفل بعضها الآخر. وربما قصّت ما جرى بشكل مختلف عن الحقيقة، حتى حسِب بعضهم أن فيها خبل وأن حديثها هو خيالات عليلة، بينما جاراها بعضهم بطريقة ماكرة وراح يرشدها إلى مكان هي تقبع فيه.
ولكنها كانت كما تزعم، أنها أفصح من أن تغرّر فهي لا تصدق كل ما يُشاع. لذا كانت تنفر ممن يحاول خداعها، لتعاود البحث مرة أخرى. وذات يوم حدثت الأعجوبة حسبما تعتقد. فقد شاهدتها تترجّل من تاكسي أمام إحدى العمارات العالية، وتولج فيها بسرعة. ولكنها عرفتها كانت تلبس التنورة والبلوزة نفسيهما اللتين كانت تلبسهما عندما فقدت منها. لقد كبرت وصارت أكثر جمالا مما كانت عليه. بهتت أول وهلة، حينما شاهدنها وشعرتْ أنّ قدميْها تخدعانها في هذا الوقت. ولكنها استجمعت قواها وولجت خلفها إلى داخل العمارة. وأخذت تلف مع أدراجها وتبحث في حجراتها وهي تصرخ بكنيتها. ثم تسمرت بغتة وهي تلهث وتذكرت واقعا مرّا وهو: أنها لا تعلمُ أحدا بهذه الكنية

عطا الله شاهين

3talla7shaheen

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة