لعنة المنصورة!
تاريخ النشر: 08/12/13 | 10:15أسافر وصديقي جواد، مرة في الأسبوع، من الجليل إلى مدينة تل أبيب، لشراء حاجيات متجرنا، ويتسم جواد بعذوبة أحاديثه وطلاوة أقاصيصه، فهكذا لا يطول علينا السفر، ونختصر دربنا بقصصنا الخاصة والعامة، في أمور شتى، عن أنفسنا، أزواجنا وأولادنا. نتداول أمور السياسة، الدين، النساء وأمورًا ثقافية متنوعة.
يتحدث جواد بلباقة، وينتقي كلماته بإتقان، ويفكر بكل ما يقوله قبل أن ينطق أي كلمة، إنه على عكسي تماما فأنا عفوي وأتكلم بوضوح تام، وأحايين كثيرة أعتذر عما يبدر مني من أحاديث صادقة وبدون مواربة.
وفي سياق حديثنا في أمور السياسة وما يعيشه شعبنا الفلسطيني خاصة وشعبنا العربي عامة، انطلق لسانه وتحدث بطريقة لم أعهدها من قبل، وقال: منذ أن ولدت وأنا أدفع ضريبة كوني فلسطينيا، لم تشفع لي زيارتي لأديرة كثيرة ولا السيدة- المجد لاسمها- استجابت لصلواتي من لعنة كوني فلسطينيا..
فأجبته مستهزئا: منذ متى وأنت تشعر بأنك فلسطيني؟
– أشم منك يا رفيقي شكا أو تكذيبا!!
– لست كذلك، ولكنني أشعر ومتأكد بأنك إسرائيلي حتى النخاع!
– هذا ما تراه في مظهري ولا تراه في جوهري، وكل ما سأنطق به سيدحض شكوكك ببرهان قاطع، لا يحتمل الرد والتأويل..
– ها، ها، ها.. هيّا تكلم يا فلسطيني..
– كان والدي ابن تسع سنوات، عندما هجمت قوات الجيش على قريتنا "المنصورة" عام 1948، وكان يقود قطيعا من الماعز في عودته إلى البيت، اختبأ بين قطيع الماعز، انبطح على الأرض ليحمي نفسه من رصاص المحتلين، قُضيَ على قطيعه الذي حمى جسده النحيل. مرّت عدة رصاصات فوقه، خدشته وطارت بعيدا، رافضة أن تخترق جسده الصغير.. عاد إلى جدتي وقطرات الدم تتساقط من جميع أنحاء جسمه. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف جدتي عن البكاء والندب لحالها ولما حل بهم حتى مماتها.
– أين تقع المنصورة؟
أجاب وابتسامة الاستخفاف على وجهه: المنصورة قائمة على السفح الشمالي لجبال الجليل الأعلى وكانت قمة الجبل تنتصب خلف القرية إلى الجنوب منها، وكانت مساحات واسعة من الأراضي ممتدة في مستوى منخفض عن القرية إلى الشرق والغرب والشمال. وبقيت المنصورة جزءًا من لبنان حتى سنة 1923، عندما رسم البريطانيون والفرنسيون الحدود الدولية في المنطقة وضموها إلى فلسطين، بموجب معاهدة سايكس بيكو. وكانت هناك طريق فرعية تربطها بالطريق الساحلي العام بين عكا و"رأس الناقورة"، منازلها متباعدة بعضها عن بعض، وأغلبية أهلها مسيحيون ولها كنيستها الخاصة بها.
– حسنا، كلنا في الهوى سوا. أخبرني ما هي الضريبة التي تدفعها لأنك ابن المنصورة.
– حدثني والدي بأن الجيش الإسرائيلي في عام النكبة، هاجم القرية وسكانها الوادعين بالسلاح، قتلوا من قتلوا وهدموا البلدة، وقد صدرت الأوامر من جيش الاحتلال إلى سكان المنصورة بإخلائها، فعبر بعضهم إلى لبنان. غير أن معظمهم نقل بالشاحنات إلى قرية الرامة التي كانت تقع إلى الجنوب. وفي شباط من عام 1949، وجهت الكنيسة المارونية نداء إلى حكومة إسرائيل، نيابة عن سكان القرية تطلب فيه السماح لهم بالعودة إلى منازلهم، غير أن هذا النداء قوبل بالرفض. وطوال أعوام لاحقة، ثابر سكان المنصورة الذين بقوا في إسرائيل على مراجعة السلطات الإسرائيلية، لكن دون جدوى.. دمرت منازل المنصورة تدميرا كليا. وقد تكوم ركام البيوت أكواما على الطرف الشمالي من القرية..
توقف صاحبي ومسامري عن الكلام، وكأنه يبحث عن الكلمات الملائمة، ثم واصل حديثه قائلا: التراجيديا لم تتوقف هنا.. بعد كل هذه المصائب التي حلت على رؤوس أهلنا، انضم عمي مارون إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وفي أول عملية فدائية للمنظمة في السبعينيات، قتل عمي وهو في ريعان الشباب.
– مصيبة المنصورة، مثل مصائب مئات القرى التي دمرها الاحتلال.
– نعم، ولكن مصائبنا لم تتوقف بعد.. حلت فوق رؤوسنا الكارثة الثانية.انتقل أهلي للعيش في قرية متاخمة للحدود اللبنانية، حيث ولدت هناك، ومن الصعب جدا العيش في قرية حدودية تمتص الصراع بين القوات الإسرائيلية واللبنانية، فكثير من الفدائيين تسللوا إلى إسرائيل بالقرب من بيتنا، وكنا نسمع طلقات الرصاص المصوَّبة نحوهم تتطاير من فوق رؤوسنا، وبعد أن تهدأ المناوشات، نجد أشلاء الفدائيين مبعثرة هنا وهناك، في كل محل على الشجر حول بيتنا، وهذا ما أرعبنا جدا في صغرنا.. أشعر بأن في كل نزاع سياسي يجب أن نكون طرفا فيه وندفع من لحمنا ودمنا ثمنا له. فكل ما حل بنا كان شنيعًا وشائنًا.
تبدلت سخريتي من محدثي إلى إصغاء كامل، مما شجعه على الاستمرار في الحديث بشغف ممزوج بالمرارة، وقال: في أحد الأيام حين كانت مجموعة صبايا في طريقها لكسب الرزق في مصنع الخياطة القريب من القرية، دخل فدائي إلى البلدة، وكما يبدو كان مرعوبا، ولم يعرف أنه في قرية عربية، فبدأ بإطلاق النار عليهن وقتل حبيبة شلهوب على الفور، وأصيبت فدوى الخوري ولطيفة سمعان وغيرهن، فكان الأذى من نصيب أهل بلدتنا، حيث طغى الحزن في قلوبنا وغطت الظلمة عيوننا.
– كلنا ندفع ثمن الاحتلال يا جواد، فأنا أيضا مثلك، أهلي وأعمامي في مخيمات عين الحلوة وصبرا وشاتيلا في لبنان، هربوا من الجليل الأعلى وما زالوا غارقين في بؤس المخيمات الفلسطينية.
– ما تقوله صحيح، ولكن المنصورة لعنت أبناءها منذ هدمها، لأننا لم نقدم لها يد المساعدة، حلت اللعنة على المنصورة هذه، فليس بمقدورنا مساعدتها، لقد صبت غضبها على أبنائها بدل أن تصبه على المحتلين.
– كفاك تشاؤمًا؟! تفاءل يا أخي، فالحروب الطاحنة طحنت كثيرا من الشعوب..
– لم أنهِ كلامي بعد..
– تفضل يا أخي.. ماذا حصل لكم أيضا؟
– بما أن قريتنا واقعة في منطقة حدودية، فالألغام تحيطنا من كل جانب، في إحدى المرات التي خرج فيها زوج خالتي صموئيل مع كلبه، ليتنزه قرب القرية، داس بقدمه لغما مزروعا في الأرض بقرب قريتنا، فأطاح بساقه كليا، وأسرع عمي طوني بسيارته لينقذه، فانفجر به لغم أكبر حجما، ومزق اللغم عمي وقطعه إلى أشلاء. لم نفتح تابوته لوداعه الوداع الأخير!!
– أوافقك الرأي فآباؤنا وأجدادنا مروا بظروف أصعب مما نجتازه اليوم، مع أنني لا أستهن بما نجتاز من عنصرية وظلم حاقد علينا كعرب وفلسطينيين في داخل البلاد..
– صدقني، نحن أبناء المنصورة، نجتاز ظروفا أصعب، واللعنات تلاحقنا أينما ذهبنا، ففي مطعم تولستوي في يافا، عندما دخلت فتاة فلسطينية وفجرت نفسها في المطعم، قتل اثنان من أولاد عمي، توفي أحدهما على الفور وعاش الآخر في غيبوبة لمدة شهر، ثم أسلم الروح.
شعرت بأن حديث جواد بدأ يتصاعد تدريجيا ويتحول إلى صراخ، عندما قال: في حرب لبنان الأخيرة، دفع جميع أهل القرية ثمنا باهظا لهذه الحرب اللعينة. عندما سقط صاروخ كاتيوشا على بيتنا، لم أستطع عندها رؤية إصبعي أمامي من شدّة الغبار الأسود الذي غطى عيوننا ونحن راقدون في أسرّتنا، ارتعبت زوجتي وأبنائي وأدى ذلك إلى رعب نفسي دائم..
– صحيح، الحرب حرب، وكلنا دفعنا ثمنا غاليا؟!
-قبل أيام، أطلقت صفارة إنذار تجريبية ضمن الاستعداد للحرب فيما إذا اندلعت، ونسيت أن اخبر ابنتي سلين بذلك، وعندما علا صوت الصفارة، ارتعدت فرائص ابنتي من شدة الهلع، وهربت من البيت باتجاه مقبرة البلد. لحقت بها وأنا أصرخ: "لا تخافي، لا تخافي، إنها صفارة إنذار كاذبة".. رأيت الخوف في عينيها، ولم أستطع مساعدتها. هذا الخوف الذي أطل من عينيها سيؤرقني حتى موتي.
– الله يكون في عونك..
-قلت لك إن اللعنة تلاحقنا.. ابني شربل الذي يدرس في كلية صفد، وبعد تحريضات الحاخامات اليهود على العرب، أصيب بعدة أحجار صوبت نحو مسكنه، حيث يشاركه السكن عدد من الطلبة العرب. أصبحت آراؤه السياسية متطرفة، يبغض اليهود. كان من واجبي أن أحتويه حتى لا يرى الأمور بالأسود والأبيض، لكنني لم أنجح بإقناعه أن ما يقومون به من تحريض ضد العرب في صفد هو أعمال عدوانية فردية، ولا يمكننا تعميمها على كل اليهود وبات ابني متزمِّتا يخاف الآخر ولا يتقبله.
تنهد جواد وأطلق زفرة قوية من فمه، ثم قال: لا عجب بأن والدي ووالدتي ماتا في الخمسينيات من عمرهما، وأنا شخصيا أشعر بأنني مهدد، لأنني من أحفاد المنصورة..
فجأة، انزاحت عن عيني غشاوة، وكأنني تنبهت لأمر هام، فقلت لصديقي، بكلمات انتقيتها جيدا، كما يفعل هو معي: الآن عرفت لماذا حلت لعنة عليكم..
– كيف عرفت؟!
– إنها ليست لعنة المنصورة فقط، بل هي لعنة جميع القرى الفلسطينية التي هدمت وشرد أهلها..
– وكيف ذلك؟!
– أنتم يا سكان تلك القرية الحدودية، معظمكم تدلون بأصواتكم للأحزاب الصهيونية، وعدد كبير منكم يخدم في سلك الشرطة وفي الجيش الذي دمر قرانا، وما زال يفعل ذلك في قرى فلسطين.. إن اللعنة موجودة حقا، لعلكم تفقهون!