” أعمال من القلب أعمال من العقل” معرض الفنان فهد حلبي بتل أبيب
تاريخ النشر: 17/09/16 | 7:41في المرة الأولى التي تعرّفت فيها على الفنان فهد حلبي ابن مجدل شمس في الجولان المُحتلّ هي عندما خصص ملحق “هآرتس” في نهاية الأسبوع له ولرسوماته عدة صفحات. كان هذا قبل أكثر من عشر سنوات. وقد كانت أقواله ورسوماته هناك والضجة التي أثارتها الرسومات تحديدا نقطة فاصلة ليست في حياته الفنية فحسب، بل في حياته الشخصية، أيضا. فالنساء العاريات الجميلات كنّ من الإغواء بحيث أنهن أثرن حفيظة أناس كُثر وكنَّ يببا في دخوله حربا على حرية ريشته وخياله وإبداعه. وقد اختار في إثر ما نشأ من هذه التجربة أن يهاجر ولو بشكل مؤقّت. لملم أغراضه خاصة عدّة فنّه، وسافر إلى فرنسا التي انتقل منها إلى ألمانيا حيث استقرّ في هامبورغ يعيش ويُبدع. ثم كان لقائي الثاني بأعماله قبل ثامني سنوات تقريبا في متحف هرتسليا للفنون المعاصرة حيث نظمت الصديقة طال بن تسفي معرضا لمبدعين عرب بعنوان “رجال في الشمس”. كان لفهد بينها عمل فيديو آرت شدّني واستغرقني كوني مثله عملت لفترة من حياتي متنقلا في ورش البناء. ثم جاء الفيسبوك ليجمعنا على فِكرة فنية وفلسفية واحدة وإن نأت بيننا المسافات، مؤدّاها أن لا شيء يعدل حقّ الإنسان في عيشة كريمة وفي حريات على مدّ النظر وأن كل ما استُعمل في ثقافتنا وثقافات الآخرين لإلغاء هذه الحقوق أو دوسها باطل من الأباطيل!
استعرض هذا للإشارة إلى أنني أتتبع مسيرة فهد منذ 15 عاما وهو لا يعرف ذلك سوى في السنة الأخيرة. ومن هنا فإن خبر إقامة معرض له في تل أبيب مؤخرا في جاليري “RAWART”، جعلني على فرح عظيم أنني سأشاهد أعماله الجديدة وأني سألقاه هو لأول مرة وأقول له كل ما اختزنه عنه وعن أعماله كما انعكست لدي.
وفهد، كفنان اصيل، ينطلق إلى أعماله من ذاته وبيئته وهواجسه. هكذا، كانت كل أعماله منذ درس الفنون التشكيلية والبصرية في تل أبيب إلى معرضه الأخير. لكن الأصالة وحدها لا تكفي لتوفّر العمل الفني. وهنا يأتي العنصر الخاص بفهد وأعماله. فإذا أخذنا أعماله في المعرض الأخير ـ أنظر الصور المرفقة ـ سنكتشف أنه يستطيع أخذ أي “مادة” أو “موضوع” أو فكرة ليحوّلها بين يديه إلى فن راقٍ. فأعماله الأخيرة مأخوذة من مشاهد أعمال البناء وورشه هنا وهناك. وإذ بهذه الأعمال التي قمنا بها بأنفسنا أو نصادفها في الحي أو المدينة المجاورة تصير بعد المرور في عدسته أعمالا في مُنتهى الجمالية والإحكام والإدهاش لتنتفي عنها صفات وتمثيلات عادة ما تتداعى إلى مخيلتنا عندما نراها أو نسمع الحديث عنها.
للرافعة وتلك السلة المتدلية بين سماء وأرض وسط فضاء أزرق يصير لها في عدسته وبعد عنايته معاني أخرى تتصل بنا ونتصل بها. كذلك ذاك الخشب المشدود إلى بعضه قالبا ـ “طوبار” ـ إذ به غير شكل عما عهدناه. مقطع في منتهى الاستيطقا والعذوبة. كذلك رصف أرضية بالحجارة المقدودة يصير عنده شكلا من الفنون البصرية اللافتة. لا أقول أنه اكتشف الدولاب من جديد أو أنه حقق الخارق في أعماله لكنه بالتأكيد استطاع أن يأتي بعالمه ـ عالم ورش البناء التي قضى فيها نحو عقدين من حياته ـ إلينا بأشكال يجعل من هذه الأعمال الشاقة صورا وتمثيلات تروق للرائي وتستهويه. ينزع من اعمال البناء خواصها المألوفة ويُكسبها خواص جديد مُدهشة. ربما هي الطريقة الأمثل للفنان أن يجمّل العالم الصعب أو هي القُدرة المحفوظة لقلّة التي تلتقط في اللحظة الخاطفة مشهدا جميلا تزيّن به كياننا. أو هي طريقته إلى احتواء مشاغله وجهده الجسماني وترويض رائحة الباطون والإسمنت وتليين القسوة من خلال استعراض الأسرار الكامنة وراء عمارة شاهقة وحائط عالٍ.
فهد قادر في أعماله الأخيرة على تفكيك المباني والعمارات وتجزيء العمل الشاق غير المستحبّ في العادة ليقدّمه لنا قطعة قطعة معلنا أنه هو الذي “كُتب” عليه أن يعمل عشرين سنة من حياته طوبارجيا يستطيع أن يقهر صعوبة هذه المهنة بأنه يستطيع تطويعها وتفكيكها! وفي فيدو آرت من هذه المهنة الصعبة جسديا (على موقعه) سنرى فهد المتمنطق بعدّة عمله يرقص بمطرقته وحزام مساميره أمام العدسة على إيقاعات شرقية فيبدو لك أنه في سبيله إلى حفلة باذخة راقصة وليس إلى ورشة يملأه فيها الاسمنت من رأسه إلى كعبه. فهد من الفنانين الذين يستعملون تقنيات عديدة للتعبير عن فكرة في العمق. يهدم عوالم مألوفة ثم يركّبها لنا على هواه. فغذ بالعصيّ سهل!
فهد يأخذ على العموم بأسلوب التحدي الساخر مرة وبالمُرّ مرة أخرى. فحساسيته المُفرطة تقوده إلى الضحك من نفسه وثقافته ومن عمله وجهده وصعوباته. كأنه يرقص على أحزانه ويستمدّ من أساه ومشقات الحياة طاقة على الرقص. يمطّ لسانه في وجه مرآته وحياته كلها. هذه السخرية تتطور أحيانا إلى عبث واضح لكنه عذب وإن كان موجعا ولاسعا حدّ الرجفة.
فهد مُحكم تماما في إنجاز لوحاته لكن هذا الإحكام ينتهي في أعمال الفيديو ـ آرت التي تقوم على سخرية مُرّة وضحك على الحياة ـ حياته وحياتنا ـ ومنها. قد يكون لمرارته هذه ألف سبب ومصدر لكني اكتشفت أن الغُربة والاغتراب هي الأقوى في تكوين ذهنيته ومحركاته المستترة. إنها الرغبة في الصراخ بأعلى صوت في وجه العالم “أن كفى عُهرا وكفى انتهاكا لكرامة الإنسان الفرد وحقوقه في أبسطها!”. فأعماله ـ الذاتية جدا ـ تصير أعمالا إنسانية عابرة للهويات لأنها تأتي ليس من يد أو تقنياته فهد بل من قلبه وعقله وعُمق أفكاره كإنسان متصل بذاته في أعمق نداءاتها وخيباتها وأفراحها وأسرارها.