كل إناء بما فيه ينضَح
تاريخ النشر: 17/09/16 | 8:13في مجمع الأمثال للميدانيّ (رقم 3159):
« كل إناء يرشح بما فيه، ويروى: ينضح بما فيه- أي يتحلّب»
يرد المثل أكثر ما يرد للحديث عن إنسان سلبي، فالإنسان كالإناء إذا امتلأ بالغَيرة والحقد وتصيًد السلبيات فلا يمكن إلا أن يفيض بالسلبية- مهما حاولنا أن نحول دون ذلك.
كما يرد المثل إيجابيًّا، فالفاضل لا يصدر منه إلا الفضل، و”ما بيطلع من المليح إلا المليح”، و “الثمرة لا تبعد عن الشجرة”.
ورد هذا الشطر في شعر حَـيْص بَـيْص (ت. 1179م)، وهو لقب للشاعر سعد بن الصيفي التميمي كان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم.
سمي حَيص بَيص (يلفظ اللقب أيضًا حِيصَ بِيص)، لأنه رأى الناس يومًا في حركة مزعجة وأمر شديد فسأل: “ما للناس في حيص بيص”؟
فاشتهر فيه هذا اللقب، ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، تقول العرب: وقع الناس في حَيص بَيص، أي في شدّة واختلاط، أو في هَرْج ومَرْج.
أما أبياته الشهيرة التي يستخدم فيها العبارة فهي:
ملكنا فكان العفوُ منا سجيّةً *** فلما ملكتم سال بالدمِ أبطُحُ
وحلّلتمُ قتل الأسارى وطالما ***غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا *** وكل إناءٍ بالذي فيه ينضَح
قال الشيخ نصر الله بن مجلي،وكان من ثقات أهل السنة:
“رأيت في المنام علي بن أبي طالب، فقلت له: يا اميرالمؤمنين تفتحون مكة فتقولون- “من دخل دار ابي سفيان فهو آمن”، ثم يتم على ولدك الحسين في يوم الطفّ ما تم؟
فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: اسمعها منه!
ثم استيقظت فبادرت إلى دار (حيص بيص)، فخرج الي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله بأنه نظمها في ليلته هذه”.
(انظر: ابن خَـلِّكان -وَفَيَات الأعيان- مادة حيص بيص.)
تبيّن لي أن كُشاجم (ت. 960م) سبق حيص بيص في استخدام العبارة، وذلك في قوله:
ومستهجنٍ مَدْحي لهُ إن تأكّدَتْ**** لَنا عقدة ُ الإخلاصِ والحقّ يمدحُ
ويأبَى الّذي في القلبِ إلاَّ تَبَيُّنًا**** وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ
لكن حيص بيص اشتهر بالأبيات بسبب المعنى الجديد الذي أورده، وهو غاية في البيان، لأنه يجري مجرى المثل، ووصف الحال في الجماعات، وتباين الأخلاق في المجتمع.
روى الأبشيهي في كتابِه “المُستطْرَف من كلّ فنّ مُستظْرَف” شعرًا ورَدت فيه العبارة، ولم يذكر اسم الشاعر في كل من الاقتباسين:
سقى الله روضًا قد تبدى لناظرٍ *** به شادن كالغصن يلهو ويمرح
وقد نضحت خداه من ماء ورد *** وكل إناء بالذي فيه ينضح
وروى أيضًا:
يقولون لي والدمع فرح مقلتي *** بنار أسى من حبة القلب تقدح
أدمعك جمر قلت لا تتعجبوا *** فكل وعاء بالذي فيه ينضـــــــح
ثم تردد الشطر في شعر شعراء آخرين، أذكر منهم:
صَفيّ الدين الحِلّي:
إذا ما فعلتَ الخيرَ ضوعفَ شرُّهمْ **** وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ يَنضَحُ
ابن نُباتة المصري:
و لغز هداني نحو معناه أنه**** أتى وبه عَرفٌ من الروض ينفَح
يشفّ على مكتوبه طِيبُ ما حوى**** و كل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وثمة أبيات أخرى ترد في نهاية العبارة (يرشح) بدلاً من (ينضح)، نحو قول الشاعر:
فنمَّ بأسرار الصبابة مدمعي *** وكل إناء بالذي فيه يرشح
وتبدو عليه عند ذاك شواهد *** وكل إناء بالذي فيه يرشح
لا نستطيع تحديد أول من قال العبارة، خاصة وأن المثل وارد في كتب الأمثال.
ثم إن المعنى وارد في شعر علي – كرّم الله وجهه-:
من لم يكن عنصره طيّبًا *** لم يخرج الطيِّب من فيهِ
كل امرِئٍ يشبهه فِعلُه *** وينضح الكوز بما فيهِ
يقول الخفّاجي في كتابه (ريحانة الألبّا وزهرة الحياة الدنيا- ص 628):
“وهذا المثل لم أرَ من حمل مورده ومضربه، وهو يحمل معنيين:
أحدهما وهو الظاهر المتبادر أن كل أحد يلوح على ظاهره ما في باطنه، وإن أخفاه.
والثاني أن كل أحد يُجازى من جنس عمله، وهذا الذي قصده الحيص بيص”.
لا أوافق ما ذهب إليه الخفّاجي، فحيص بيص يدِل بالتفاوت بين الجماعتين، ويعتز بالعفو والصفح، فكيف يجازيهم من جنس عملهم؟
ب. فاروق مواسي