تلك الرصاصات قتلت إبتسامات ناتاشا
تاريخ النشر: 22/09/16 | 17:33ذات مساءٍ كانّ ذاك الرّجُل يجلسُ على أريكةٍ بيضاء ممزقة، ويحدّقُ في لوحةٍ مُعلّقةٍ على حائطِ غُرفته المطلية جدرانها بلونٍ مملّ، عندما لمحَ ناتاشا التي خطتْ بخطواتها المتمايلة، فهي التي جذبته وفتنته كما فعلتْ بالكثيرين من غيره. وصلتْ ناتاشا إلى بابَ الفرندة دون أنْ تنظرَ صوبه بنظرة، وكأنَّها لا تشعرُ بوجوده البتّة، فتحتْ بابَ الفرندة، ووقفتْ تنحني إلى الأمامِ مُتكئةً على حافةِ فرندتها بعد أنْ ردّتْ البابَ ورائها.
ذهبَ ذاك الرّجُل إلى شُرفته المليئة بحبالِ الغسيل، ورَنَا إليها بنظرةٍ قاطبة، كانتْ تبدو بتنورتها البيضاء القصيرة كزهرةٍ تفوح أريجاً، وهذا ما زاد في حنقِه وسخطه عليها. كانت حنجرتها تطلقُ ضحكةً فتبلغ أُذنيّه رنّانة، وتثيرُ في نفسه أحاسيس حانقة، وكأنها كانتْ تتعمّد العزفَ على أوتارِ عذابه ومعاناته. كان يتنهّدُ بصوتٍ مسموع ويشهقُ شهقةً ملؤها الحُرقة، وشاهدُها تأتي بحركةٍ رشيقة بيدها البيضاء، التي طالما توسّدتها قُبلاته.. فكان يقول في ذاته : لمنْ يا ترى ناتاشا عساها تلوحّ بيدها؟ ربّما كانتْ تلوّح إلى جارتها الثّرثارة البشعة التي ملّ من كلامها ذات مساءٍ، حينما التقاها في بيت الدّرج، وكانت تحدّثه عن مغامراتها، لكنّه كان يزدادُ حنقاً ويزدادُ جنوناً في وقوفه على شُرفته هناك كلما رأى ناتاشا. بالأمسِ جلسَ ذاك الرجل في مكتبِ عمله المُكركب كعادته وكان يصارعُ المللَ، ويقلّبُ إحدى الصُّحف، ولفته أحد العناوين وكُتبَ بخطٍّ عريض: امرأة من بلاد السند ومِنْ أصلٍ كرواتي تتقدّم بدعوى فصل بحقِّ زوجها، فتظفر بحضانةِ ولديّها وتزجّ بزوجِها المفصول في الحبسِ لمدة شهر كاملٍ، ففهمَ ذاك الرجل حينها بأنَّ الحديثَ يدورُ عنْ ناتاشا تلك الواقفة الآن على الفرندة، فابتسمَ للنّبأ وزادَ غُلّه على قانونٍ أعتبرُه جائرا. فشَكَا أمره لزميلِه في المكتب، والذي كانَ صديقاً شخصيا له، فكان يتأسّفُ لحالِه، لكنَّه كان ينصحُه بالحكمةِ والتّروي ويذكّره بأنَّ القانونَ دائماً إلى جانبِ المرأة في هذه البلد. فدوت في داخله صرخةُ احتجاج.. هلْ يبقى القانون في صفِّ المرأة حتّى وإنْ كانتْ تمارسُ الخيانة بحقِّ زوجها؟ إنْ كانَ الأمر كذلك، فما في يدِه من حيلة، سيعتصمُ بالصّبر ويحاولُ ردّها إلى السَّبيل القويم، ولعلّ الله يهديها!
وها ذاك الرجل يقف هنا وما يزالُ ينظرُ إلى ناتاشا تلك من على الشُّرفة. وهي تبدو بعيدةً عنه، ألهاها عنه عالمها المليء بالضّحكاتِ والإيماءات. فغابَ عنها ما يعانيه مِنْ عذابٍ وضياعٍ واحتراق بنارِ ذاته المُتأجّجة
وبغتة أطلقت ناتاشا ضحكةً عالية مُجلجلة ذات أصداء.. فضربت على وترِ جنونه، صرّ بأسنانه وكوّر قبضته.. وهي ظلت لا تزدادُ إلا بُعداً عنه وانغماساً في عالمِها وحركاتها الباعثة على الجُنون..
فجأة حدّق إلى سيقانِها اللذين كشفتْ التّنورة عنْ مساحةٍ كبيرةٍ منهما بفعلِ هُبوبِ الرّياح:
وقال في ذاته ما الذي يبقيني صامتاً حتّى الآن؟ ليس لدي أولاد أخشى من ضياعِهم.. نارُ الغُربة التي تكويني طعمها سواء في شتّى الأحوال، فما الذي يمسكُني عن التّصرف.
قادته قدماه إلى غرفةِ نوْمه الغير نرتبة كعادتها، غاب فيها برهةً من الزمن ثم عاد وهرول نحو الشُّرفة، حيثُ مازالتْ ناتاشا تقفُ هناك. فتحَ ذاك الرّجُل البابَ بحركةٍ عصبية، وعلى ما بدا بأنّها لمْ تسمع صريرَ الباب أو أنّها لمْ تردْ الالتفاتَ إليه.. ناداها بصوتٍ مسموعٍ ناداها باسمها :
ناتاشا..
التفتتْ إليه بحركة سريعة، وابتسمتْ وراح حينها يبتسمُ ودخل حُجرته مسروراً، وبعد مرورِ وقتٍ قصير سمعَ صوتَ رصاصٍ، فخرجَ ليستعلم ما الأمر، فقال له الجيران بأنّ زوجها أطلق عليها النار وكانوا يقصدون ناتاشا، فنظر إليها وكانت تبتسم، لكنها ماتت ناتاشا من تلك الرصاصات، فعاد ذاك الرّجل إلى غرفته، ونظرَ إلى الشُّرفة التي كانت تقفُ عليها ناتاشا، وقال في ذاته: لنْ أرى ابتسامات ناتاشا بعد اليوم ..
عطا الله شاهين