تشابه في الأبيات الشعرية
تاريخ النشر: 24/09/16 | 8:09تشابه في الأبيات الشعرية
من الظواهر التي كانت مألوفة في شعرنا القديم أن الشاعر كان يأخذ أو يتمثّل، ولا أقول يسرق من شاعر سبقه، لأن السرقة تتم عادة بإخفاء مقصود.
لا شك أن قارئ الشعر الجاهلي يعرف، كما أن طرفة – مثلاً- يعرف أنه أخذ في معلقته عن سابق قصد من معلقة امرئ القيس:
امرؤ القيس:
وقوفًا بي صحبي عليّ مطيَّهم *** يقولون لا تهلِك، أسًى وتجمّلِ
طرَفة:
وقوفًا بي صحبي عليّ مطيَّهم *** يقولون لا تهلِك، أسًى وتجلّد
(بعدهما قرأت في شعر عمرو بن الأهثم:
وقوفًا بي صحبي عليّ مطيَّهم *** يقولون لا تجهلْ ولست بجهّال)
سآتي على نماذج أخرى لاطلاع القارئ، ولكن قبل ذلك اسمحوا لي أن أبدي رأيي الشخصي في هذه المسألة.
أرى أن أخذ الأول عن الثاني، هو من منطلق الإعجاب بالنص الأول، تمثل أو استشهد به وهو على يقين أن المتلقّين له يعرفون هذا النص كما يعرفه هو، فهو يقول ذلك تزيينًا لنصه، كما يزيّن الكاتب اليوم (أو يدعم) ما يقول بمراجع أو مصادر، ففي زمن طرفة لم تكن معرفة المزدوجين، ولا أية إشارة للاقتباس، حتى يذكر لنا ذلك.
فهل يظن أحد أن المستمعين لقصيدته يجهلون النص السابق؟
وهل قرأ أحد منا رواية نقدية فيها اعتراض على طرفة في البداية؟
لنقرأ نماذج أخرى:
يقول المتلمّس (ويقال إن البيت للمسيَّب بن عَلّس):
ولإني لأُمضي الهمّ عند احتضاره *** بناجٍ عليه الصيْعَريَّـةُ مُكْدَمِ
طرفة:
ولإني لأُمضي الهمّ عند احتضاره *** بعوجاءَ مرقالٍ تروح وتغتدي
..
إذا صحت الرواية أن البيت للمتلمس (كما ورد في “الأمثال”- للمفضَل الضبَي- ص 230، وابن قتيبة- “الشعر والشعراء”، ج1، ص 183) فلا يخفى على القارئ أن طرَفة كان يعرف أن البيت هو للمتلمس، وخير برهان على ذلك ما قاله معلقًا على بيت المتلمس: “استنوق الجمل”، ذلك لأن المتلمس ناقض في الوصف، فهو يركب الناجي أي الجمل، والصيعرية سِمة تكون على الناقة في اليمن، فقد جعل الجمل في هذا البيت ناقة؟؟!
لذا سخر طرفة، وقال لخاله- “استنوق الجمل”، فذهب قوله مثلاً.
إذن فطرفة أخذ أو تمثل بالبيت عن معرفة، والأخذ المقصود لا أرى فيه سرقة، بل هو مدخل للتواصل مع الذين يعرفون هذا البيت مثلاً، أو تذكير به.
وأسوق من قول تأبّط شرًّا:
ولستُ بمِفراحٍ إذا الدهر سرّني *** ولا جازعٍ من صَرْفه المتحوِّلِ
فقال هُدْبة بن الخَشْرم:
ولستُ بمِفراحٍ إذا الدهر سرّني *** ولا جازعٍ من صَرْفه المتقلِّبِ
كلمة واحدة اختلفت بسبب القافية، وهذا ما لاحظناه في بيتي امرئ القيس وطرفة.
بل يتكرر الأخذ بين عدد من الشعراء، وكنت قد ذكرت نماذج من ذلك في حلقة سابقة حول “ومن لم يمت بالسيف مات بغيره”، فإليكم نموذجًا آخر:
يقول الراعي النُّمَيْري:
فتًى يشتري حسنَ الثناءِ بماله *** إذا ما اشترى المَخزاةَ بالمجد بيهسُ
ويقول الأبيرِد من قبل:
فتًى يشتري حسنَ الثناءِ بماله *** إذا السنة الشهباء أعوزها القطرُ
ويقول أبو نواس فيما بعد:
فتًى يشتري حسنَ الثناءِ بماله *** ويعلم أن الدائرات تدور
بل انظر هذا التشابه بين عدد من الشعراء:
عَبيد بن الأبرص:
قد أترك القِرنَ مصفرًّا أناملُه *** كأن أثوابَه مُجَّت بفِرْصادِ
أبو المثَلَّم الهُذَلي:
قد أترك القِرنَ مصفرًّا أناملُه *** يميدُ في الرمحِ مَيْدَ المائِحِ الأسِنِ
زهير بن مسعود الضبّي:
هل أترك القِرنَ مصفرًّا أناملُه *** قد بلَّ أثوابَه من جوفه العَلـقُ
المُتَنَخَّل الهُذَلي:
والتارك القِرنَ مصفرًّا أناملُهُ *** كأنه من عُقارِ قهوةٍ ثَمِلُ
رَيْطة الهُذلية:
والتاركُ القِرنَ مصفرًّا أناملُه *** كأنه من نجيعِ الجوفِ مخضوبُ
يلاحظ القارئ أن ثلاثة من هؤلاء الشعراء هم من بني هُذَيل، فهل يظن أحد أن القوم وهم يستمعون إلى هذا أو ذاك أنهم لم يسمعوا الشطر أو المعنى، وهل يظن أحد منهم أن الشاعر منهم كان يقصد السرقة حقًا؟
سأتناول في حلقة قادمة كيف أصبح موضوع السرقات في العصر العباسي فنًا نقديًا، وكيف أنهم كانوا يحاسبون الشاعر على المعاني والألفاظ، فاختلفت الموازين، وتغيرت الأحكام، وكأنهم كانوا يسجلون ملكية لكل قول، فلا يحق لهذا أن يأخذ من ذاك، ولا بد من أن يقول النقد فيه كلمات.
ب. فاروق مواسي