المقامة الكندريّة
تاريخ النشر: 14/12/13 | 4:28لديّ كندرة أعتزّ بها جدا! فوجهها عليّ خير وبركة، واللهِ! كلّما لبستُها حدث معي شيء يفرح، أو حصلت على نبأ يثلج الصدر. وهي ذات صوت صائت! إذا ما دخلت أيّ مكان وأنا أرتديها، يسمعُ الداني والقاصي صوتَ خَطوي، حتى صار صوتها دليلا على قدومي.
غير أنّها في الشهور الأخيرة بدأت تغيّر إيقاعها في السير، ويصبح صوتها الموقِعْ، ضربا موجعْ، وتنقّلها المعجِلْ، تزحلقا مخجِلْ! ممّا استدعى فحصا. قلبتُها، فاكتشفتُ أنّ نعلَها قد ذابْ! وأنّ من قال إنها طليانية، كذّاب ابن كذّابْ! فالقفا منها صينيّْ، والوجه فوقَه تركيّْ! والبائع، ليَ الله، ضحك عليّْ! قرّرتُ أن أرمّمَ حذائي، وأن أعيدَ إلى وجهي مائي! ففقدانه فأل شرّْ، ونسيانه عليّ أمَرّْ؛ أخذته إلى حذّاءْ، وقلت له: صلّحه من الألف إلى الياءْ! ودعوني أنقل القصّة بلغتِها، لتنتقلَ الصورةُ بطبيعتِها:
– مرحبا عمّي…
(عمّي هذا جاوز السبعين، ويذكر موسليني وهوجو ولينين؛ ومع الطقس المثلج باتت أعصابه تلفانَه، وكلماته فلتانَه: )
– أهلين- استنّا شوي!
(استنتجت أنّه في الحمّامْ، وأنّ وضعه متأزم تمامْ!، وانتظرت دقيقتين بالكمال والتمامْ، حتى هدر صوت الماءْ، ثمّ سرعان أن جاءْ!)
– مالها كندرتَك (لم أجب، بل قلبتُها فابتسمْ، ثمّ عبسَ واحتدمْ!) شو؟ حارث عليها منيح! ما حسّيت إنها مهتريّة غير اسّا؟
– لا والله عمّي حسّيت، بس شو تعمل شغل بشغل لحدّ ما فضيت!
– آه… خليكو اركضو، تشوف شو رح توخدو معكو! بسيطة خالي، بدها كعب جديد!
– عال، معناها بتركها عندك، وبرجع بعد ساعتين آخذها! (هنا ولّعت معَهْ، وأرعبني أن أسمعَهْ!)
– عوين يا مسهّل؟ بدها ربع ساعه بس، إذا ما بتستنا بَكُلّك (يعني: أقول لك) بدها يومين وبتيجي السبت تاخدها! منيح هيك! (ثار قلبي فكتمتْ، ورفعتُه لربّي وشكوتْ، ثمّ قلت بعد ابتسامة من غير رنّه:
– ماشي عمّي عمّرها وانا بستنّا!
(لا باب لمحلّه ولا شبّاكْ، والهوا الصاقع يضرب وجهك وقفاكْ. قلتُ: أقطع الدقائق بالحديث إليهِ، لعلّ الدفءَ لديهِ)
– والله برد هون! موت العادي!
– أي برد؟ هاد برد هاد؟! بعدين هو بس احنا؟ ما هو كل الشرق الأوسط! (والله كلامه مزبوطْ، الشرق الأوسط كله بارد ومخبوطْ. قد يكون الرجل شاعرْ، وانا على فهمه غير قادرْ…)
– بقولو الثلج بالقدس صار 15 سانتي!
– أي 15 هاي ها؟! كلهن تنين سامتي ويادوب وصلو ودابو! أبوهن عأبو تلجهن كلاب! (من هم يا عمّي؟ والله غضبه حرق دمّي! الثلج ثلج منْ؟ واللهِ في قوله فنّْ!)
– هو مزبوط مش رح تكون بقوّة العاصفة بالتسعين، لمّا كل الجليل انتلى تلج…
(قهقه بصوت ساخرْ، فعرفت أنّ حظي اليوم عاثرْ)
– هاهاها الله يساعدكو انتو! وين انتو ووين سنة التلجه حبيبي بالخمسين! قال تسعين قال! هداك التلج! تلجكو انتو تلج؟!
(فهمت من قوله أن الثلج مقسوم! فثلج للمسلمين وثلج للرومْ، وثلج للعجزة ولصغار القُومْ! والله نظرية جديرهْ، وقد تتمخض عن نتائج خطيره!)
– هاي كنادر آخر زمان! اشي كوري اشي صيني، هاي تفييييي عهيك بضاعه! وين كنادر زمان، كنت تلبسها عشر سنين وتورّثها لولاد ولادك! اليوم كلو عالمزبلة، اهري وجدّد..
(يعني لو لم يكن كلامه عامّْ، لحنقت من هذا الكلامْ! فقد أهان في طيات كنادره كندرتي، وهي كما أسلفت في مقدمتي، عزيزة عليّ وغاليه، وقد نالها من بصاقه رذاذة ساهيه!)
– يعني شو تعمل يا عمّي الله يساعدنا…
(كنت أقول هذا وأنا أرى بيده السكينْ، تجرح الجلد كي يستلينْ، ويتناسب مع نعل الحذاءْ، ثمّ يثبّته بمساميرَ وغراءْ، قلتُ لنفسي: سكّينه تطيّر الراسْ، فاستلن وفق هذا المقاسْ، وسايسه حتى تنقضي المصيبه، ووافقه على أفكاره الغريبه!)
-… أمّك ابن كلب! (طبعا يخاطب المسمارْ، الذي انطعج بيده ودارْ، بدل أن يستقرّ مستقيمْ! فأخرجه ورماه كالذميمْ، وأدخل مكانه أخاه، ثمّ قلب الحذاء على قفاه، وتمعّنه من كلّ جانبْ، وقحط منه الجوانبْ، ورفعه في الهواءْ، ثمّ خبطه بازدراءْ، وهو يقول كرجل شرطَهْ:
– سمعتْ خيا هاي الخبطَهْ؟ كندرتك صارت لُقطَهْ! نعلها عال العالْ (وضعت كفّي في الشروالْ، وأخرجت منه بعض المالْ، ووضعته بيده وعينه ترمقني، فصاح وصوته كاد يخنقني:)
– شو هاي؟ 200 شيكل! شو شايفني بنك هون! شو هالحاله هاي عالصبح! كلهن 15 شيكل! فش معي ارجعلك! بعرفش، دبّر حالك!
(وأمسك الكندره بيديهِ، وصرّ بكلا ناجذيهِ، فلعنت الساعة والصباحْ! وقلت له وأنا أتّقي الصياحْ، وأستهدي بالرحمنْ، وأقول لعنترةَ: اهدأ الآنْ!)
– طب استنى شوي تروح اصرفها هناك…
(ومن دكان إلى دكانْ! شوارما وكهرباء ودهانْ! والبرد في الخارج موتْ، والرجل راسو وألف بوطْ! والباعة كلّهم مفلسونْ، ويبدو الحيّ غارقا بالديونْ، ولا أحد معه فكّهْ، ورأسي قد فقد فكّهْ، من شدّة البرد والشتاءْ، فوقفت قبالة الحذّاءْ، في حالة تستدعي الرثاءْ، وقد ضاع وقتي وطارْ، وطار عقلي ودارْ، وقلت له من بعيدْ، وهو ممسك بحذائي السعيدْ:
– عمّي خليها عندك يومين، خلص باجي بحاسبك بعدين!
(تململ الرجل زمجر وصاحْ، ولولا قليل بحذائي طاحْ! فتظاهرت أني ما رأيتْ، وما سمعت وما أصغيتْ، وهرولت نحو السياره سريعْ، وقلت: يا له من صباح مريعْ! يومٌ كأوّل الفاتحة وآخر أبانا، فلأهرب وبعضُ الرجولة أن تكون جَبانا! لم أعلم أن العمّ عدّاء ماهرْ، وأنّ غضبه جعله طائرْ! هي دورةٌ للمفتاح في الماتورْ، وإذا به صار جنبي كثورْ، والزبد في فكّه يغلي ويثورْ!
– وين مفكّر حالك رايح؟ شو انا محلي مخزن لكنادركو! خد كندرتك معك ومع السلامة، هني بدهن يِغنونا هالخمسطعشر شيكل!
(ورمى الكندره على المقاعد من الخلفْ، ثمّ مسح بأصبعه الأنفْ، وطرق الباب بقوة واحتقانْ، فرفعت كفّي ورأسي للحنّانْ: "كنّا بكندره خربانه وجرابْ، والآن الرجل قد أتلف البابْ! إلهي نجّني من العذابْ!" وقبل أن يقطع الشارع ويرحلْ، قلت له: استنى شويّ، تمهّلْ؛ بحبشت في جراب السيارهْ، فوجدت خضراء ازدانت نضارهْ! عشرين شاقلا أهون وأيسرْ، أخذها جافيًا، ثمّ تيسّرْ؛ قلت: أرحلُ فللورطة بقيّة، فهناك الباقي والباقي قضيّه! ورحلت مسرعا مثل ملسوعْ، وحلفت يمينا: لا للرجوعْ!
من يومها للآن ما لبست الحذاءْ، بل صرت أخشى عند لبسه من بلاءْ!