جولة أدبية مع المعتمد بن عباد
تاريخ النشر: 04/10/16 | 12:27هل قرأتم هذه القصيدة المؤثرة؟
….
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا *** فـساءك الـعيدُ في أغماتَ مأسورا
تـرى بـناتِك في الأطمار جائعةًً ** يـغزلن لـلناس ما يملكن قمطيرا
بـرزْنَ نـحوك للتسليم خاشعةً ً *** أبـصارُهن حـسيراتٍ مكاسيرا
يـطأن في الطين والأقدامُ حافية ٌ *** كـأنها لـم تـطأ مســـكاً وكافورا
لا خـدّ إلا تـشكّى الجدبَ ظاهرُهُ ** ولـيس إلا مع الأنفاسِ ممطورا
أفطرتَ في العيدِ لا عادت مساءتُهُ *** فـكـــان فـطرُك لـلأكباد تفطيرا
قـد كان دهرك إن تأمرْهُ ممتثلاً *** فـردَّك الـدَّهرُ مـنهيّاً ومأمورا
مـن بات بعدك في ُملكٍ يسرُّ به *** فـإنَّمــــا بـات بـالأحلام مغرورا
…
هذه الأبيات من قصيدة قالها المعتمد بن عبّاد ملك إشبيلية وقرطبة عندما أسِر في أغمات في مراكش. (ديوان المعتمد بن عباد، ص 100)
…
المعتمد بن عباد (1040- 1095م ) أكبر ملوك الطوائف في الأندلس، وأصله من مدينة العريش، وهو شاعر رقيق له ديوان مطبوع.
حكم المعتمد في إشبيلية وقرطبة، ودافع عنها دفاع الأبطال. ولما هزمه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في مراكش حمله مع أهله في سفينة حتى وصل به إلى أغمات أسيرًا.
…
قال المعتمد هذه الأبيات في أغمات في أسره وهو مصفّد، حيث دخلت بناته عليه وهو في هذه الحال، وذلك يوم عيد الفطر. ومن المؤسي أن بناته كنّ يغزلن للناس بالأجرة في أغمات، حتى إن إحداهن غزلت لبيت صاحب الشرطة الذي كان في خدمة أبيها، فسبحان مغيّر الأحوال!
..
دخلت البنات على أبيهن، وكن في حالة رثّة وأطمار بالية، فما كان منه إلا أن قال وهو كاسف البال هذه الأبيات المؤثرة حقًا.
إنها لوحة مرسومة بكلمات العاطفة!
…
مما أعجبني في سيرة المعتمد أن هناك من الشعراء من بقي على إعزازه وإكباره للملك رغم تقلب الحال، فقد قرأت لابن اللبانة الداني (ت. 1113م) هذا الوفاء النادر في عصر يقتل فيه كل معارض للسلطة:
شَكاتنا فيك يا فخرَ العلا عظمت ***والرُّزءُ يعظمُ في من قدرُه عظُما
طُوّقتَ من نائبات الدّهرِ مِخْنَقة *** ضاقتْ عليك، وكم طوقتنا نِعما
وعاد كونك في دكّان قارعةٍ ***من بعدِ ما كنت في قصْرٍ حكى إرَما
صرّفتَ في آلة الصّواغ أنْملة *** لم تدرِ إلا النّدى والسّيفَ والقلما
يدٌ عهدتك للتّقبيل تبسطها *** فتستقلّ الثّريّا أن تكونَ فما
يا صائغًا كانت العليا تُصاغُ له*** حليًا وكان عليه الحَليُ منتظما
…
شاهد ابن اللبانة حفيد المعتمد وهو في خدمة حداد، فتمنّى العمى على رؤيته له وهو على تلك الحال، فقال:
للنّفخ في الصُورِ هولٌ ما حكاه سوى *** هولٍ أريناك فيه تنفخُ الفَحَما
وددتُ إذ نظرت عيني إليك به *** لو أنّ عينيَ تشكو قبل ذاكِ عمى
وابن اللبانة ألف كتابًا وسمه “نظم السلوك في وعظ الملوك” نظمه في دولة المعتمد وأيامه وفي أسره.
..
في مقدمة ديوان المعتمد الذي راجعه طه حسين (مطبعة دار الكتب المصرية) يقول المحققان:
“وعلى الرغم مما أصاب المعتمد وآله فإن المحنة لم تروّع قلبه، ولم يُطأطئ هامته لقسوة يوسف، فما ذل ولا استعطف، ولا استرحم ولا استشفع، ولا ارتاع ولا رُوّع…وكان عزاؤه في محبسه، وغذاؤه الروحي في أسره إنما هو الشعر يبثّه كامن حزنه، وينفث فيه ذاهب مجده، ويتوجع فيه لمصرع بنيه” ص م13
…
من العجب العجاب أن هذا الشاعر الملك نودي في جنازته بالصلاة على الغريب بعد عظم سلطانه وجلال شأنه.
عجيب! غريب!
ولماذا نعجب وهو الشاعر الذي عارك الدهر وقال:
من يصحب الدهر لم يعدِم تقلَّبَه *** والشوك ينبت فيه الورد والآس
تُمرّ حينًا وتحلو حوادثه *** فقلما جرحت إلا انثنت تأسو
(الديوان، ص 107)
(يذكرني ذلك بقول ابن زيدون الذي كان من شعراء بلاطه:
ما علي ظنّيَ باسُ *** يجرح الدهر وياسو)
….
للتوسع في التعرف إلى شخصية المعتمد انظر كتاب ابن خَلِّكان: وفَيَات الأعيان (مادة المعتمد بن عباد ملك الأندلس وأبوه وجده)- ج2، ص 412.
أ.د فاروق مواسي