عن العنف والقيادة شمعون بيرس
تاريخ النشر: 06/10/16 | 9:38كان الأسبوع الاخير غير عادي، اختلط به العنف مع شمعون بيرس، الوطن مع القيادة، ودموع أبو مازن في جنازة مثيرة، لأحد أبرز الشخصيات المثيرة في الحركة الصهيونية.
لم تكن جنازة بيرس وسؤال روني دانيال الضابط في رتبة صحفي للنائب أيمن عودة، حول الفرصة :”التي أتيحت لنا لنثبت أننا بشرا”، سوى حالة من حالات، يعيد الإعلام الإسرائيلي تدوير “وجوهنا”، وفحص الإمكانيات التي يتاح لنا بها ان نكون “بشرا”، فلا نحسن الاختيار ونفشل المرة تلو الاخرى.
وسؤال دانيال بوصفه الأكثر تمثيلا للدور المنوط بالإعلام الإسرائيلي تجاه العرب، أي فحص الجانب الإنساني لديهم، وفحص مدى الملائمة بينهم وبين أجناس اخرى، هو في الحقيقة “حالة الرعب”الدائمة التي تلازمنا، فنقول دائما في سياق المحاولات الدائمة لتغيير الانطباع لدى الإسرائيلي عن العربي، “يجب أن نغير الصورة عنا”، “يجب أن نثبت أننا ليس كما يعتقدون”، وعليه كان سؤال دانيال كما نعتقد نحن عن أنفسنا من وجهة نظره ونظرهم.
ليس مثل الإعلام الإسرائيلي قدرة على اخراجنا من توازننا، من دب الرعب فينا، وليس مثله قدرة على فهم حالتنا، نحن نقرأ حالتنا بحسب ما يقال هناك، نحاول أن نتصرف بحسب ما يطلب منا، ولأننا بحسب الإعلام الإسرائيلي كما تشير أبحاث الإعلام الاسرائيلي، متطرفون وقتلة وزعران ومخربون ولنا ذنب كما وصفنا، فإن دانيال سأل سؤاله انطلاقا وبالضبط من ذات المكان الذي وصفنا ويصفنا به الاعلام الاسرائيلي، كان سؤاله طبيعي للغاية، ومان ارتعابنا اكثر من طبيعي.
في احتفالية شمعون بيرس الإعلامية، التي حولت الشخص إلى حالة شبه أسطورية، وسبقه في ذلك إسحاق رابين وارئيل شارون، غاب من المشهد الخلاف وحضر الإجماع إسرائيليا، ولم يكن من المهم البتة التأكيد على دور كل واحد منهم عسكريا وامنيا وسياسيا بما الحقوا به من أضرار وكوارث ومجازر ومخططات تجاه الفلسطينيين مثلا، بيرس وان كانت صورته المرسومة في الوعي، التي رسمها الإعلام، هي صورة “أمير السلام”، وهي صورة كاذبة بشهادة الإسرائيليين قبل العرب والفلسطينيين، فقط بعد موته أكد اليمين المستوطنون على دور بيرس المميز في المشروع الاستتيطاني وأنه لم يكن رجل سلام بتاتا، حتى ما توهم العرب به على مدار سنوات تبين أنه كذبة كبيرة، لكن لم يفلت العرب من التهم والاهانات والتحريض من مسألة بسيطة للغاية، المشاركة في جنازة، وأية جنازة، واحد من أبرز قادة الحركة الصهيونية، فيما امتنع يهود كثيرون عن المشاركة في جنازته، لكن أحدا لم يتهمهم بشئ.
لم تكن أية مفاجأة في “العتاب” الإسرائيلي تجاه العرب الذي وصل به الحد لنزع انسانيتهم، لم يحدث مثل هذا عندما تم اغتيال إسحق رابين من قبل يهودي، بالعكس تمام حتى بيرس الذي نافي بنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة بعد مقتل صديقة اللدود اسحق رابين عوقب بفشل انتخابي، ولم تكن أية حاجة او عتاب لمن لم يشارك في جنازة بيرس من اليهود، لكن العرب، ذات العرب الذين هرولوا إلى الصناديق عبر مكبرات المساجد للتصويت لبيرس في تلك الانتخابات اتهموا من قبل فؤاد بن اليعزر بإسقاط بيرس، بعد مجزرة قانا، بإسقاط بيرس لأنهم لم يهرولوا بما فيه الكفاية، هرولت ام لم تهرول فأنت متهم، شاركت ام لم تشارك فأنت كذلك، متهم.
الجماهير وهبة القدس والأقصى
لا حاجة بداية وطبعا في التأكيد على مقولات، أصبحت جزء من كليشهات جاهزة نسمعها كل عشية وضحاها، القيادة بعيدة عن الجماهير، ولذلك تبدو المشاركة الشعبية في النشاط الوطني في تراجع مستمر، يصل وصفها أحيانا بالهزيلة ودون المطلوب، وسجل ما شئت من التوصيفات، عندنا ستجد من يفصل للنملة ثوبا، وعندنا ستلقى من سيسجل كل التفاصيل المملة، وينشغل بتفسير التراجع والبؤس.
قدر الله لي أن أشارك في المسيرات التي نظمت بمناسبة هبة القدس والاقصى، احيانا بشكل جزئي واحيانا بشكل كامل، مرة بصفة صحفي وأخرى كسياسي (اعذرونا)، مرة كانت تبدأ من الجنوب في النقب وأخرى كانت تبدأ من جت، مرة تتخللها مبيت وأخرى كنا نعود إلى بيوتنا في ساعة متأخرة، شارك معنا أناس ما زالوا بيننا وآخرين قضوا نحبهم او أنهم في مكان اخر، خلف القضبان او خارج الوطن، كنا نشارك بقبعات واحيانا بدون، واحيانا كان البعض يرفض وضع قبعة على راسه، لأسباب سياسية مبدئية (صدق او لا تصدق)، كانت هذه المسيرات تستقبل بشكل عام بشكل رائع من قبل أهالي الشهداء والسلطة المحلية واللجان الشعبية، وكانت بوابات المقابر توصد في وجهها احيانا.
وأكثر من ذلك كان بعض الرؤساء تبلعهم الأرض بالذات في يوم الذكرى، وكان آخرون يصابون بوعكة صحية على غير العادة، وأكثر من ذلك، احيانا كنا نفتقد أهالي الشهداء، هذا هو شعبنا، ولم زر من الضرورة بإبداء ملاحظات، نحن شعب مثل كل الشعوب، ولا حاجة ان نختار في كل مرة اللحظات السيئة وتحولها إلى عناوين كبيرة في الإعلام، وهذا طبعا لا يجب ان يكون عائقا او حجة لمنع الانتقاد.
لا اذكر مرة واحدة الفتن منها مناسباتنا الوطنية من الكلام والعناوين، المحبطة احيانا، والتي لا علاقة لها بالنقد، هي محبطة ومنفرة ولا تخلو للأسف من التضخيم احيانا، واعذروني أن قلت ان بعضها كان لا يخلو من الكذب او أنصاف الحقائق، في أقل تقدير.
لا بأس من الانتقاد، لا بأس من إبداء الملاحظات، لا يمكن انتزاع أي شئ من حق الصحفيين والإعلام في القيام بدورهم، هذا أمر جوهري في المهنة، روح المهنة، لكن بين هذا وإن تفقد المهنة روحها المسافة كبيرة.
لا تكاد تخلو مناسبة، لا تعجبنا، من نسب ما لا يعجبنا، في العادة الحضور والكلمات ومعها مكبرات الصوت والشعارات كذلك، نسبه إلى العلاقة بين القيادة والجماهير، الأولى في العادة فاشلة تكرر نفسها ليس لديها أي افق، هي بواد والناس بواد، فيما الثانية، أي الجماهير زهقت ومات، وعليه يجب ابتكار أساليب جديدة للعمل والنضال.
كلام جميل ورائع يلخص حقيقة الحالة السياسية التي نعيش، لكن من جهة أخرى هو لا يقول لنا شيئا، او على الأقل ماذا يمكن ان نفعل كبديل عن حالة الفشل والتراجع التي نعيش.
وهل هذه هي الحقيفة؟
الجماهير بالعموم لا تتصرف بعيدا عن بيئتها، السياسة مثلا هي نتاج حالتها، الاقتصادية والاجتماعية، بالضبط مثل العنف الذي يصمم البعض ربطه بالسلاح “غير المرخص” فقط، هل يمكن أن تتغاضى عن مغني قادر على استقطاب قرابة العشرين ألف شخص، فيما أسير يموت جوعا لا يقدر على استقطاب
17 شخصا، وهل يمكن التغاضي عن عشرات الآلاف من الناس يقفون ساعات بهدوء وانتظام على المعابر في طريقهم إلى شرم الشيخ وطلبا وانطاليا بعد أن مولت البنوك رحلاتهم بواسطة قروض؟، فلا نسأل عن هذا الفعل نتغاضى عنه، ثم تأتي ذات الجماهير لتقول القيادة فاشلة
هل يمكن فعلا، وهل صحي فعلا، أن نحمل مسؤوليات التراجع والفشل والتقهقر للقيادة فقط
ليس هناك أية مشكلة لتوجيه نقد للقيادة، بالعكس هذا واجب، ولدى القيادة الكثير مما تنتقد عليه، لكن حين تصبح المسألة البحث عن عنوان، وتوجيه ذات الكلام للقيادة، في كل عام، فإن المسألة تصبح مختلفة.
دعوني أكون واضح منذ اللحظة الأولى، الصحافة والعمل الصحفي يحيا البحث عن “غير العادي”، أقول هذا الكلام بحكم التجربة، الصحافة تحب التلصص على الحياة، وعلى التفاصيل، وتحب بالعادة أن يتحدث الناس عما تنشر، والناس يحبون الحديث عن عنوان مثل:”رجل يعض كلبا” فينشغلون به للغاية، فيما حين يعض كلي رجلا فإن المسألة عادية للغاية، الكلاب في العادة تعض والرجال في العادة تعضهم الكلاب، وليس في أيامنا هذه أدل من “افلام داعش”، جريمة مثل ذبح إنسان بالسكين تفوق أهمية وانشغالا تدمير حي كامل في حلب بقنابل روسية، طريقة العرض مهمة للغاية.
أين الجماهير؟
لم نجب بعد على سؤال المليون، لماذا “يبدون عدم رضاهم:، ومن حقهم ان يفعلوا ذلك، لا غضاضة في الامر، ومن حق بعضهم ان يوجهوا تهما لا اساس لها من الصحة، لا غضاضة في الأمر، لكن أليس من حقنا أن نسأل لماذا، ونسأل من يبدون ملاحظات أخرى حول التراجع في مشاركة الجماهير، وأنها سأمت وملت ولم تعد لها ثقة بالقيادة؟
هكذا مثلا يصبح عنوان مثل :”أهالي الشهداء يبدون عدم رضاهم من النشاطات في هبة القدس والاقصى”، أكثر جاذبية من :” الآلاف يشاركون في مسيرة سخنين”، المسألة تتعلق بطريقة العرض ومنسوب السلبية.
جيد، ولكن هل تكون الجماهير مجموعة محايدة لا علاقة لها بما يحدث حولها وفيها، وأنها قررت اختيار نمط حياة “محايد”، وأن الاحتجاج ب”الخصوصية”و”الظرف الخاص” الذي تعيشه يبرر لها حتى التغاضي عن قضايا هي في صلب وجوهر وجودها.
لا أحد يدعو الجماهير للانخراط في الكفاح المسلح، ولا أحد يطلب منها ان تغامر، ولم أسمع من يدعوها لممارسة العنف السياسي، بالعكس تمام هناك تشديد في الخطاب السياسي العام السائد على الدعوة لنكس ذلك تمام، فهل يكون الرفض في المشاركة ب جنازة شمعون بيرس هي “تطرفا”و”قلة مسؤولية”و”انعدام افق سياسي”؟.
هذا السؤال مهم للغاية، لا يحبذ الهروب منه ولا إبداء تفهم لمثل هذه الدعوات، لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا في السؤال أين الجماهير.
بالعموم نحن نحب الهروب والمواجهة مع الأسئلة الصعبة، وسؤال “أين الجماهير” هو من الأسئلة الصعبة جدا، فيه حرج شديد، فيه اعترافات صعبة، لا نحبذها ولا نحب الخوض فيها، لأنها تكشفنا، مع أننا نعرفها لكننا تحبذ الصمت عنها.
الجماهير التي نبحث عنها ستجدها في أماكن كثيرة بكثرة منقطعة النظير احيانا، تنتظر في البنك للحصول على قرض للخروج إلى رحلة في شرم الشيخ، على المعابر الحدودية تتدافع وتنتظر بصبر ساعات، في “التعاليل ” التي تمتد ليالي تمارس بها النميمة والوجاهة الاجتماعية، عند صابر الرباعي في رام الله تقف على الحواجز وتكشف بطاقتها الشخصية لجندي إسرائيلي بدماثة خلق، تتناقش حول تركيبة فريق كرة قدم بالتفاصيل، تتعارك ان لزمن الضرورة على ريال مدريد وبرشلونة، تجلس في مقهى “معتبر” للغاية وتدفع ثمن فنجان قهوة عشرين شاقل، تحب مواكبة”العصر” فلا تترك موديلا يفوتها، تحب الماركات الفاخرة (الموتاغيم يعني)، تركب سيارة من الشركة بقرض، تنتظر حتى ساعات الليل المتأخر عد نقود العريس، ويغرق العريس في دينه في اليوم الأول لشهر العسل، تبتكر أساليب في الاسراف التبذير، في الأعراس بشكل خاص، تدفع مبلغ يقدر بنصف قسط جامعي لترتيب الفواكه في بوفيه الغرس، توزع صوره على صفحات التواصل قهرا وجكرا ونكاية قبل أن ترمي ما دفعت مقابل تصميمه إلى سلة المهملات، تشارك بالاعراس بلا فرح، وتجلس في بيوت العزاء بلا حزن، تشارك البنك في راتبها الشهري، تأكلها القروض والديون، لكنها لا تابه، تطلق المفرقعات “ابتهاجا ” بكل شئ، في العرس وفي طلعة العروس وفي عودة الحجاج والمعتمرين وفي لعبة كرة قدم لا ناقة لهم بها ولا بعير، وكهواية تحب إطلاق الرصاص بمناسبة وبدون مناسبة، وفي آخر الشهر تقول شو هلعيشة الواحد مش قادر يخلص الشهر.
في المدرسة يمارس الطلاب ومعهم الأهالي العربدة تجاه المعلمين، في الانتخابات تضيع ليالي وأيام وتهدر أموالا قبل أن يتحول الرئيس إلى أقل من موظف عند حاكم اللواء في وزارة الداخلية.
هل يمكن أن نعترف كحد أدنى ان كل ما ذكر آنفا ويزيد هو جزء من الإجابة على السؤال أين الجماهير، هذا مهم لأنه جزء من البحث عن الإجابة.
عبد الحكيم مفيد