في رحاب لغتي
تاريخ النشر: 17/12/13 | 22:39اليوم 18 كانون الأول هو "اليوم العالمي للغة العربية"، وقد أعلنته هيئة الأمم المتحدة قبل بضع سنين.
ارتأيت أن أقدم لكم صفحات من "رحلتي في رحاب لغتي". وكنت نشرت هذه المادة في "أقواس من سيرتي الذاتية". طولكرم: مطبعة ابن خلدون- 2011، ص 126- 136،
ولأن المادة طويلة، وأنا حريص على أن يقرأها قرائي، ويتابعها أصدقائي فسأقدمها على حلقتين، تكون الحلقة الثانية في وقت يكون فيه الحديث عن اللغة أو عن مناسبة ملائمة.
الحلقة الأولى:
رحلتي…. في رحاب لغتي
منذ أن شرعت أقرأ، وأعي ما أقرأ، أخذت لغة القرآن تتنفس في وجداني بيانًا وإيقاعًا وإمتاعًا. كنت أنهض من النوم على قراءة والدي لسورة (الكهف) أو (مريم) وسواهما، فأشنف أذني بهذا الخشوع، وأحاول أن أتدبر- وأنا على فراشي- معنى هذه الكلمة وتلك، ثم أخذت أُكثر من استعمال المعجم أو كتب التفسير حتى أعي المعنى.
ثم تمكنت في أول شبابي وبصبر غريب أن أطالع معجم المنجد كله، لأدوّن ما أحب من كلمات ارتأيت أن أعرفها، أو لأصوب خطأ شائعًا، أو لأخطّئ هذه العبارة أو تلك.
وظلت هذه "الآفة" تلاحقني…. فلا يكاد يخطب خطيب إلا رأيت أن هناك خطبًا في اللغة، بسبب اللحن والركاكة أو التكرار أو الإطالة المملة، أو كلها معًا. ولا يكاد يكتب كاتب ويسلم من ملاحظاتي- إذا أحب أن يسمعها فعلاً، وإذا كان يتقبلها بتسامح، وما أندر ذلك التسامح!
بل إني جمعت أخطاء وقع بها أدباء من أصدقائي، وجعلتها تحت عنوان "جل من لا يسهو"، ولعل ما يشفع لي أنني دونت أخطائي أولاً وقبلاً، وخير الخطائين الذين يصوّبون ولا يكابرون.
أسعفني على هذه"الحراسة” الطوعية للفصيحة أنني عدت أولاً إلى كتب"النحوالواضح" و"مبادئ العربية"، و"سلّم اللسان"، فحفظتها، أو على الأقل تدارستها. وكان لتدريسي مادة العربية دافع لأن أدرس"البلاغة الواضحة"، وأمثلة الكتاب فيها، وأحفظ القصائد الكثيرة التي أعلمها خاصة، وأتابع كتب"تيسير الإنشاء” المختلفة، وأدْرس العروض وحدي، ذلك لأننا لم نلَقّـَن هذا العلم في المدارس، ولا في الجامعة.
كانت دار الإذاعة قد أعلنت عن إجراء مسابقات في اللغة والأدب، يحظى الفائز فيها بجائزة مالية، إضافة إلى هذه الجائزة المعنوية التي لا بد منها إعلاميًا. فشاركت في مسابقة عن المتنبي وشعره، وحفظت آنذاك سنة 1966 مئات الأبيات، وشاركت كذلك في مسابقة عن الشعر المهجري، و أخرى عن الخنساء، وكنت الفائز الأول فيهما.
بيدَ أن مسابقة القرآن الكريم كانت مفصلاً هامًا في حياتي، فقد تقدم نحو خمسين مرشحًا للفوز بجائزة"حفظ القرآن الكريم-الفائز الأول"، وبعد إجراء امتحانات تحريرية وشفهية حظيت بالجائزة المميزة (آذار 1967)، ولم يتسنَّ لي ذلك لولا هذا الحفظ الذي خَصصت له وقتا طويلاً، وكنت أقف في ذلك على كل شكل لحرف، مما يدعوني أحيانًا لأتساءل عن إعراب هذه الكلمة أو معنى تلك، والتساؤل هو بداية البحث- كما هو معروف-.
برغم هذا الجو المحافظ الأصيل، فقد تركت لنفسي فسحة لكل تجديد، وكانت جملة طه حسين عن اللغة: "….. ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها" التي كنت استمع إليها في مقدمة البرنامج اللغوي الإذاعي (أبجد هوز) محفزًا لي على التسامح في بعض الأمور اللغوية (وسأتناول ذلك بعد سطور)، ذلك لأن مارون عبود الذي قرأته في أواسط الستينيات كان له تأثير ملموس على توجهي اللغوي والأدبي؛ يقول عبود في كتابه"مجددون ومجترّون” :
فالتقليد داء أدبنا الوبيل، هو تصلب شرايين قلب الأدب العربي. قال الشاعر العربي:
"وسقى ضريحَك صيّبُ القطر"، والله لا أدري لماذا هذه السقيا، أليفرخ وينبت ويصير دمنة ترعاها الإبل والشاء؟ أم لترتوي كبده الباردة؟
أما نحن فأعدنا كلامهم بلا تفكير، ورددنا ما قالوه أجيالاً، ولم نتساءل لماذا؟ وأما نحن فما يجعلنا نقول مثلهم؟ ألسنا نقول هذا لأننا نفكر بعقول غيرنا؟؟!".
* * *
رأيت أن لغتنا "يسر لا عسر"، وقد كتبت للصديق محمد علي سعيد الذي جشم نفسه في إعداد كتاب"كنوز اللغة العربية"-لطلاب المدارس الابتدائية، سنة 1980- أن هذه المجموعة لا تقدم غذاء لغويًا صحيًا، بل جرؤت على القول إنها تنفره من لغته، إذ ليس ثمة ضرورة أن يعرف التلميذ كنى وألقابــًا عفا عليها الزمان- كأن يعرف أن"أم ليلى" هي الخمرة، وأن"أبا خالد" هو الكلب، "وأم دفر" هي الدنيا.
ثم ما حاجة التلاميذ لمعرفة صوت الدب بأنه (القهقاع) وأن صوت القفل، وكذلك العقرب والفيل والخنزير والفأرة هو (الصَئِيّ) وأن(الشبرق) هو صغير القط، و(الخرنق) صغير الأرنب.
وتبقى مشكلة لفظ كل حرف وحرف، وكيف يجب أن ننطق الكلمة.
وأكرر ذلك كيف يجب أن ننطق كل كلمة؟
من هنا فإننا مدعوون للابتعاد عن التكلف والثقل في مثل هذه الألفاظ، وذلك حتى تكون لغتنا مأنوسة لطيفة محببة.
وثمة من يسألني هنا:لقد قدمت أنت برامج إذاعية لغوية، ومنها" وقفة مع اللغة"، وقبل ذلك كتبت في" صدى التربية" في أواسط السبعينيات ست عشرة حلقة عن اللغة الصحيحة التي ترتئيها وهي"من أحشاء اللغة“، فلماذا تسلك سبيلاً تحرمه على غيرك (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)؟ فماذا تبغي؟ أفصِح!
أجبت عن هذا السؤال في كتابي"أدبيات" – مواقف نقدية" (ص 173) وبينت رؤيتي في فهم اللغة وتطورها، إذ أنني أصبو إلى ما يلي:
– أن نلفظ الكلمة الصحيحة كما اتفقت عليها المعاجم- دون اللجوء إلى الشاذ الغريب.
– أن ألفظ -على سبيل المثال- عَدي (بالفتح، وليس بضم العين التي تعني تصغير عدو)، وألفظ عَرَف- بفتح الراء، وأقول حَـيْـرة (مصدر حار)… الخ، كما يجب الانتباه إلى صحة لفظ الأسماء التاريخية ونحوها.
– أن نحافظ على النحو والصرف بالقواعد المتبعة المألوفة، فلا أجيز "جاء أباك" حتى لو كانت هناك عشرات الشواهد. فعلينا مثلاً في الصرف أن نقول "ظرف معيش" لا "معاش"، ولا نقول: "الدولتان الأعظم"، وقس على ذلك. ومع ذلك فثمة مجال للاشتقاق هنا وهناك، إذا جرى ذلك على أصول ومنطق صرفي معين.
– أن نتقبل الشائع إذا كان صحيحًا، أو أن نجد له تخريجًا لغويًا، فلماذا ألفظ "على الرُّغم" بضم الراء- ما دام الفتح فيها جائزًا، وما دامت هذه الطريقة طريقة لفظنا المألوفة؟!
– أن نستعمل الكلمة الأعجمية الشائعة في لغات العالم، وذلك إذا لم يكن لها بديل دقيق يؤدي دلالتها تمامًا، فأنا أستعمل في كتابتي"التلفزيون" و"الرادار" و"الكاسيت“ و"الفيتامين"…. إلخ؛ بل لا ضرورة للمزدوجين في كل منها، إذ أدخل العباسيون مثلاً كلمات مستحدثة وعرّبوها، فلا جناح علينا أن نسير سيرتهم، ومن يستصعب ذلك فعليه الرجوع إلى كتاب"لحن العامة" للزُّبيدي – عندها سيُفاجأ بكثير من الكلمات والألفاظ التي يريد صاحبنا أن يخرجها من دائرة العربية، مع أنها اليوم في صميم اللغة وفي كل المعاجم.
– أن ننحت ونولد كلمات جديدة، فقد قمت شخصيًا بابتداع ألفاظ على نحو:"حـَتَّـن" بمعنى وافى بآخر المستجدات (ويستعملونها في المغرب حيَّن، وفي بعض المواقع- حدّث)، ومنهم من يقول خطأ وهُجنةً لغوية بإقحام اللام- (حتلن)، وقد أنشأتها من لفظتيْ (حتى الآن)، وكلمة (حتّـان) بدلاً من (عدكان).
وأوجدت كلمة (مَشْرى) للمجمَّع التجاري، و"المِجواب" للرد الآلي في الخلوي، و(الواقنسية) للشعر الواقعي الرومانسي، و (الاجتأدبي) مختصرة من الاجتماعي- الأدبي، وثمة كلمات أخرى كثيرة لا مجال هنا لذكرها، وكلها تدل على محاولاتي الجادة بأن تظل العربية سائدة وسائغة على الألسن، ولكل امرئ ما نوى.
– وكذلك الأمر أن نتقبل التعبير والأساليب التي لم يكن للعربية القديمة بها عهد، ولن يضارّ اللغة أن نسوق لها عبارة مترجمة عن لغة أخرى، فهذه اللغات أنهار تتلاقى شئنا أم أبينا. وتبقى هنا مسألة الذوق في قبول هذا الأسلوب أو رفض ذاك.
* * *
إن شجرة اللغة قد تتساقط منها أوراق ذوت، أو تراها أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، لكن هذه الأوراق (أعني الألفاظ والتعابير) سرعان ما تستبدل بأوراق أخرى يانعة دعت إليها الحاجة واستلزمها الظرف، والشجرة تبسق أصيلة شامخة. وهذا الفرع منها إذا انكسر فإنه لا يغير من اطراد نموها، وسيظل أصلها ثابتًا وفروعها الأخرى في السماء.
ونحن العرب في هذا الوطن نصارع يوميًا في سبيل الحفاظ على أسباب حياتنا وتطورنا، إذ نصطدم بواقع مغاير- واقع متحرك دينامي في المجتمع الإسرائيلي، وعلى لسانه لغة تحاول أن تأخذ من حضارتي وتراثي الكثير من فولكلور وألفاظ وآثار، حتى وصلنا بسبب هذه القوة الحضارية -اعترفنا أم لم نعترف- إلى أن هذه اللغة أخذت تقحم الجملة العربية، بل تتداخل في نسيج التعبير، وأضحى شبابنا ومثقفونا (من محامين وأطباء واختصاصيين وتكنولوجيين) يكررون على مسامعنا كلمات هي بالعبرية المهيمنة.
هزني ذلك فكتبت مقالتي اللغة" العِـرْبِـية" عن اللغة التي لا هي عربية تُعرف، ولا عبرية تُفهم، فالأولاد يأخذون (البيجديمات)= ملابس البحر، واشتروا (كرطيسين)= بطاقتين، وقس على ذلك.
وحاولت أن أقدم حلولاً افتراضية للخروج من هذا الخلط، أو على الأقل للتقليل منه.