جولة أدبية: “إن العصا قرعت لذي الحِلم”
تاريخ النشر: 01/11/16 | 9:55هل “قرع العصا” في قول القدامى:
هو (الإشارة) في قولنا:
“إن اللبيب من الإشارة يفهم”؟
عاشق اللغة
معنى المثل “قُرِعت له العصا”، أو ” إن العصا قرعت لذي الحِلم”:
أن الشخص يُنبّه ويُنصَح لما هو أصلح.
ورد هذا المثل في أشعار مختلفة، منها:
الحارث بن وَعلة:
وزعمتمُ أن لا حلومَ لنا *** إن العصا قُرعتْ لذي الحِلم
الفرزدق:
فإن أعفُ أستبقي ذنوب مجاشعٍ *** فإن العصا كانت لذي الحِلم تُقرع
ابن زيدون:
إن العصا قُرِعت لذي الحلم *** والشيءُ تحقره وقد ينْمي
سعد بن مالك:
قَرَعْتُ العَصَا حتى تبيَّنَ صاحِبِي … ولم تَكُ لولا ذاك في القوم تُقْرَعُ
ثمة أكثر من رواية تحدثنا من هو “ذو الحلم”، ومن هو الذي قُرعت له العصا:
الرواية الأولى:
هو عمرو بن حُمَمة الدَّوسي:
عُرف عمرو بن حَُمََمَة الدَّوسي في الجاهلية بحكيم العرب، إذْ كان أحد مَن تُضرب إليه أكباد الإبل من نواحي الجزيرة العربية لطلب حكومته، والاستئناس برأيه، والأخذ بمشورته، كما أنه كبير “دَوس”، وآلت إليه رئاسة القبيلة الأزْدية بعد موت أبيه حُمَمة بن الحارث الدوسي وقد اشتهر بالمجد والحكمة، وقد كان أبوه كذلك.
وكان عمرو بن حممة الدوسي، أحد من تحاكمت العرب إليه في العصر الجاهلي، فلما شاخ ألزموه السابع أو التاسع من ولده يقرع له العصا إذا هو غفل ليعاوده عقله، فلا يزيغ في الحكم، فهو أول من قرعت له العصا، ويقال: إنه هو ذو الحِلم الذي ضرب به العرب المثل، وأنه هو المعني بقول الحارث بن وعْلة الذُّهَلي.
وزعمتـمُ أن لا حلـوم لنا إن العصا قرعت لذي الحلم
(العصر الجاهلي) – د. شوقي ضيف – دار المعارف مصر ص 407
الرواية الثانية:
وقال آخرون في قولهم “إن العصا قرعت لذي الحلم”:
إن ذا الحلم هذا هو عامر بن الظَّرِبِ العَدْوَاني، وكان من حكماء العرب لا تَعْدِل بفهمه فهمًا ولا بحكمه حكمًا، فلما طَعَنَ في السن أنكر من عقله شيئاً، فقال لبنيه: إنه قد كبرَتْ سِنِّي، وعرض لي سَهْو، فإذا رأيتموني خرجْتُ من كلامي، وأخذت في غيره، فاقرعوا لي المِجَنَّ بالعصا.
قال ابن الأعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظَّرِب العَدْوَاني،
وربيعة تقول:
بل هو قيس بن خالد بن ذي الجَدَّيْن،
وتميم تقول:
بل هو ربيعة بن مُخَاشِن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم،
واليمن تقول:
بل هو عمرو بن حُمَمَة الدوسيّ.
قال المتلمس يريده :
لِذِي الْحِلْم قبل اليوم ما تُقْرَعُ العصَا … وما عُلِّم الإنسان إلا لِيَعْلَمَا
والمثل يضرب لمن إذا نُبِّه انتبه، أو يعني التنبيه على أمر تُخشى عاقبته.
.
انظر:
(مجمع الأمثال) – النيسابوري ، ص 37-40، (مجمع الأمثال) للميداني – المثل 146،
العصر الجاهلي – د. شوقي ضيف –ص 407.
ثمة من ذكر أن (العصا) هي فرس، فإذا ضُربت بالسوط فهناك طريقة لركوبها،
كما أن هناك من ذكر أن القصة جرت مع عمرو بن هند وأخيه، وثمة من يقول- مع النعمان…إلخ، ولكل رواية!
على ذلك تبين لنا أن هناك أكثر من شخص وراء هذه القصة، وأكثر من رواية.
يبدو أن أشيعها هي ما جرى مع عامر بن الظَّرِب العَدْواني.
أما “الحليم” فلا يعني هنا الصابر والمتمالك نفسه فقط، بل يعني ما وصفه أبو هلال العسكري في (ديوان المعاني)، ج1، ص54:
“ومن أشرف نعوت الإنسان أن يُدعى حليمًا، لأنه لا يُدعاه حتى يكون عاقلاً وعالمًا ومصطبرًا ومحتسبًا وعفُوًّا وصافحًا ومحتملاً وكاظمًا، وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال”.
أعود إلى السؤال:
المثل القديم الذي استقصيته هو تذكيريّ، فقد يقع تنبيه النبيه، وذلك بعد أن يخفى عليه أمر لسبب ما، أو يسهو عنه، وهو العاقل الحصيف، فلذا فهو أحوج من يشير له بحركة أو بصوت، عندها سيتدارك أمره، وفي هذه الحالة كان قرع العصا تنبيهًا.
أما المثل الحديث (إن اللبيب من الإشارة يفهم)، فهو تحريف لما ورد لشاعر مغمور من أصل تركي، عاش في القاهرة هو حسن حسني الطويراني (ت. 1897) إذ يقول:
نعمْ إنما ألغزتُ فيه إشارة *** وكل لبيب بالإشارة يفهم
(الموسوعة الشعرية- المجمع الثقافي)
ولم أجد هذا القول في الشعر العربي قبل ذلك.
نعود إلى العجُز الذي جرى مجرى المثل، فنرى أن المثل عن اللبيب هو وصفيّ وعامّ، فالذكي يفهم الأمر بسرعة، وليس بحاجة الى كثرة التنبيه أو الشرح والتوضيح، حتى إنه يستطيع أن يفهم الأمر بالإشارة بالعين أو باليد أو بأي تلميح.
وليس الحديث هنا عن عاقل قد يجنح عن صوابه، بل هو وصف له ولذكائه في كل حالاته.
نقول في الدارجة الفلسطينية ما يشرح هذا المثل:
“العاقل بيفهم من إشارة”.
وفي الجزيرة العربية: “العاقل لَوِّحْ لِهْ!”
وفي مصر: “العاقل من غمزة”.
وفي الإنجليزية:
.A word to the wise is enough
وفي العبرية المثل الآرامي:
די לחכימא ברמיזא.”- أي أن العاقل تكفيه الإشارة.
ب.فاروق مواسي