قراءة في رواية "توابل المدينة"

تاريخ النشر: 14/01/14 | 4:42

انضمت رواية "توابل المدينة" -وهي الثالثة للجزائري حميد عبد القادر- لقائمة النصوص السردية القليلة التي تجرأت على فتح الملفات المسكوت عنها في الثورة الجزائرية، مثل تهميش الإطارات المثقفة على أيدي قيادات ثورية واغتيال بعضها، والتحاق مجندين جزائريين في صفوف الجيش الفرنسي بالثورة في أواخر خمسينيات القرن العشرين، ليديروا دواليب السلطة في الجزائر بعد انتخابات تقرير المصير عام 1962.

وفي خمسة عشر فصلا، حاولت الرواية -الصادرة مؤخرا عن دار الحكمة- أن تفكك ما انجر عن هذه الأخطاء من إجهاضات مست الاستقلال الجزائري. راويان متوازيان هما محفوظ عبد القادر المغراوي وبرهوم بوسليمان "ولد الشعبة" يتوغلان في سرد تجليات هذه الإجهاضات من خلال تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) أحيانا، والاعترافات المباشرة أحيانا أخرى.

لم تكن السيدة "جنات سكندر" سوى نموذج مشرق للطبقة البرجوازية الجزائرية التي تخلت عن فكرة الاندماج مع المجتمع الفرنسي والتحقت بثورة التحرير، لكن السياسة التي اعتمدها نظام الرئيس الراحل "أحمد بن بلة" بُعيد الاستقلال، والقائمة على تطهير العرق والفكر الجزائريين، عملت على تصفيتها من خلال تخوينها وتجريدها من أملاكها.

اغتيل من اغتيل من هذه الطبقة، وهاجر من هاجر، ليحرم النسيج الجزائري -وهو الخارج توا من ظلام استعماري دام ثلاثة عشر عقدا- من ثقافة متوازنة كانت قادرة على تجنيبه فخاخ الخيار الاشتراكي.

وتبدأ الرواية من صدمة الراوي الأول "محفوظ عبد القادر المغراوي" من اغتيال السيدة جنات بعد الاستقلال، وهي التي كانت تمثل له الحياة المتحررة والمفتوحة على الفن والجمال، فيشرع في سرد ذاكرتها وذاكرة والدها المثقف الذي انخرط في خيار الثورة، لكنه اصطدم بجملة من العراقيل حالت دون أن يساهم في تغذيتها بالأفكار التي تجنبها أن تكون مجرد حرب مسلحة مفرغة من المحتوى الحضاري، وأقصى غايتها طرد المحتل.

وتلك كانت العراقيل التي أحالته على الهامش أثناء الثورة، والمحاكمة بتهمة التآمر على قيم الشعب بعدها، مما جعله يحرّض ابنه الشاب الجامعي المثقف، والمعتنق للقيم الليبرالية على الهجرة حتى لا يلقى المصير نفسه.

لم تقل الرواية إن الخيار الاشتراكي -الذي تبناه الرئيسان أحمد بن بلة وهواري بومدين- كان جريمة في حد ذاته، بل أدانت اقترانه بالدكتاتورية، وبغياب الحرية، والتعامل مع البرجوازية على أساس أنها تهمة تقتضي تصفية أصحابها، وعزت هذه النزعة إلى كون معظم قادة الثورة الذين حكموا بعد الاستقلال، كانوا من أصول ريفية تربت على ربط الثروة والرفاهية بالمستوطنين وأذنابهم من الجزائريين.

لا يدرك القارئ أن قاتل السيدة جنات هو الراوي الثاني "برهوم بوسليمان" ولد الشعبة -وهو لقب يطلق في الجزائر على اللقيط- إلا بعد أن يتعاطف مع طموحه المشروع في بناء نفسه، وتخليص قريته النائية من الحرمان الذي يلفها رغم مغادرة المستعمر.

يقرر بوسليمان أن يدخل الجزائر العاصمة بحثا عن فرصة لذلك، وهناك يقع تحت سلطة أحد المتنفذين في الجهاز الحاكم، والذي يعده بتحقيق أحلامه مقابل قتل السيدة جنات التي تظهر الرواية أنها تمتلك وثائقَ خطيرة تثبت أن ذلك المتنفذ كان ضمن صفوف الجيش الفرنسي قبل أن يلتحق بصفوف الثورة في مرحلتها الأخيرة، ويصبح من أبرز مستشاري الحكومة بعد الاستقلال.

هذا التعاطف الذي سرعان ما يتلاشى حين يتمادى "ولد الشعبة" في أداء مهمته رغم أنه علم فيما بعدُ بخلفياتها، بل هو يضع نفسه مرة أخرى تحت تصرف هذا المتنفذ، فيقبلَ -مطلع تسعينيات القرن العشرين- بأن يصبح أميرا إرهابيا ليضمن مصالح سيده، في حرب عبثية وُجدت أصلا لإجهاض ما تبقى من مكاسب الاستقلال.

على مدار فصول الرواية يلتقي القارئ وجوها متعددة للعنف في حق الإنسان والمكان، وذاكرتيهما اللتين تشكلان جوهريهما. وقد نجح نص حميد عبد القادر في رصد تجليات هذا العنف من خلال تقديمه للصورة الحية للمدينة الجزائرية، والتي كانت نسيجا متجانسا من الأجناس والثقافات، ثم تفكيكه للسياقات الموضوعية والمتعسفة معا، والتي أدت بالتراكم إلى نسف هذا التعدد الباعث على الحياة.

فالاغتيالات التي طالت المثقفين والمفكرين وحاملي النزعة التحررية أثناء ثورة التحرير، وبعد الاستقلال -ومنها اغتيال السيدة "جنات سكندر" الذي كان فاتحة الرواية- أسّس للفوضى في الأفكار والسلوك، في مدينة جزائرية قدرها الانتقال من دم إلى دم.

وهذه المدينة مدعوة من حميد عبد القادر إلى قراءة التجربة الديمقراطية، بالموازاة مع قراءة تجربة العنف الثوري، إذا أرادت أن تسترجع "توابلها" المفقودة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة