القرآن: دستور الإصلاح
تاريخ النشر: 04/01/14 | 2:25قال تعالى: (إنّ هذا القُرآن يَهدِي لِلّتي هيَ أقوَمُ ويُبشِّر المُؤمِنِينَ الذينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحاتِ أنّ لَهُم أجراً كبيراً)(الإسراء/ 9).
"الإصلاح" عنوان الرِّسالات الإلهيّة ومضمون غاياتها.. ذلك أنّ الرُّسُل والأنبياء إنّما بُعثوا لإصلاح المجتمع، سواء كان ذلك على مستوى الإيمان والإعتقاد، أم على مستوى السلوك والعمل، فالهدف كلّي: (إنْ أُريد إلاّ الإصلاح…)(هود/ 88)، لا فرق أن قالها النبي شُعيب، أو قالها سبط النبي الأكرم الحسين بن علي بكربلاء .. فهي رسالة الأنبياء والأولياء ومَن سار على نهجهم واهتدى بهداهم.
فحيث كان الخلل في الإعتقاد أو الوهن في الإيمان، كان تأكيد الرِّسالة والدعوة لتصحيح الإعتقاد بتأصيل التوحيد، وهو أصل الدين وأساس الإيمان، وكان التذكير بتقوى الله واليوم الآخر، حتى يأخذ الإيمان طريقه من القلب إلى الأركان، ليكون سلوك الإنسان وفقاً لما يقتضيه إيمانه وطبقاً لما يأمر به دينه.
وحيث كانت المشكلة أخلاقية، فإنّ جهود المؤمنين المُصلحين تتّجهُ إلى مكافحة المظاهر السلوكية الفاسدة، وإلى تجذير مكارم الأخلاق، وإشاعة محاسن الأفعال، ليكون المجتمع ربّانياً، طاهراً ونظيفاً، في قوله وفعله وتعامله مع الآخرين.
وإذا كانت القضيّة إجتماعيّة، والفساد يدبّ بين الناس وفي دولهم وحكوماتهم ومالهم وقضائهم، وقد أضرّ بالعدل وأركانه وغيّب المساواة عن وجدانه.. إتجه الإصلاح إلى إقامة العدل وبسط القسط وإنصاف الناس ورعاية حقوقهم، وتصحيح الأوضاع الإجتماعية والسياسية.
وقد عني الإسلام كثيراً بإصلاح المجتمع، بل كان أهم ما يبتغيه في تعاليمه وأحكامه، لأنّ سعادة الفرد مبنيّة على صلاح الظرف الإجتماعي الذي يعيش فيه، فإذا فسد المجتمع أحاط الشقاء به من كل جانب، وكانت هداية الأفراد وسعادتهم أصعب ما تكون، ولذلك اهتمّ الإسلام بإصلاح الأوضاع الإجتماعية إهتماماً لا يعادله غيره، وبذل الجهد في جعل التكاليف الدينية والعبادات، من الصلاة والصوم والحج، إجتماعية ما أمكن فيها ذلك حتى يعيش الفردُ الخيرَ في نفسه ويعايشه في محيطه الإجتماعي.
والقرآن الكريم، وهو دستور الإسلام ونهجه القويم، يحفل بالعديد من الآيات التي تعرّضت إلى موضوعات الإصلاح ومكافحة الفساد ومعالجتها بعرض الأسباب والنتائج وبحث الوسائل والمناهج، مع توسّع في المطالب أكثر ممّا تعرّضت له المعالجات الحديثة والتي تتمركز غالباً حول الفساد المالي.. فالفساد الذي عالجهُ القرآن فسادٌ ثقافي وأخلاقي وسياسي واقتصادي، بل كل فساد في سائر المجالات الإجتماعية.. كما أنّ الإصلاح يشمل الأفكار والأهداف، فضلاً عن الدوافع والوسائل والآليات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بحث ودراسة الرؤية القرآنية في الإصلاح له أكثر من فائدة وداعٍ، فهو إضافة إلى الجانب الإستشرافي الكامل الذي تمتلكه هذه الرؤية، بسبب مصدرها الإلهي وإحاطتها بالموضوع من جوانب قد لا يصلها العقل البشري، فإنّ ذلك يُوفِّر للمسلم حصانة ومتانة كبيرة في الموقف من الفساد والتمسك بنهج الإصلاح، لأنّه بنظر المسلم ليس أمراً شكلياً أو مسألة ثانوية، أو رؤية إجتماعية ومعالجة قانونية بشرية، بل هي مسألة مبدئية تمس أصل إعتقاده وسلامة دينه، لأنّ الفساد لا يقابل الإصلاح فحسب، بل يقابل الإيمان والتقوى ويصطف إلى جانب الفجور والعصيان، كما قال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفُجّار)(ص/ 28).
وحين يكون الله تعالى هو الرَّقيب وهو الحسيب، في السرّ والعلن، في الظاهر والباطن، في الليل والنهار.. أكانت هناك سلطة وسطوة للقانون أم لم تكن، فإنّ سلطة الإيمان وقوّة التقوى أقوى من أي رادع آخر للفساد لأنّه معصية لله تعالى واتّباع للهوى وللشيطان.
ولذلك كان المؤمن – بحق – أقلّ الناس مخالفة للقانون وأكثرهم إلتزاماً بالحق وإتصافاً بالإصلاح.. وكان غيره – من أتباع الهوى ومنهم المنافقون المتظاهرون بالدِّين – أكثر الناس عرضة للإنحراف، لأنّ المصلحة الشخصية عندهم هي الأساس، والمنفعة واللذّة هي الهدف، والمانع من الفساد هو القوّة والقانون، فإنْ أمِنَ ذلك أو غفل عنه انبرى ليفسد ويسرق المال العام والخاص.. إلاّ مَن رحم الله.
وتقوية العامل الديني والإيمان بالله سبحانه وتعالى وسلطانه على العالم، وتحذيره وعقوبته للمجرمين والمفسدين، يوفِّر جوّاً نفسيّاً ومظلة إجتماعية واقية من كثير من الجرائم والإنحرافات، خصوصاً إذا كانت هذه التربية مدعومة بالتعليم والتوعية لتشخيص الصالح من غيره، وتحديد دوائر الفساد والمساحات التي يتحرّك فيها، وإسقاط الأقنعة التي يتستّر بها.. حتى يكون الناس على بيِّنة من أمرهم، لا تنطلي عليهم شبهات الشيطان، ولا تغلبهم سكرات الهوى، ولا ينخدعون بمكر الفاسدين الذين غالباً ما يتظاهرون بالإصلاح، ويتزيّنون بالشعارات البرّاقة، الوطنية أو الدينية، ويتاجرون بها.
وإذا كانت نطفة الفساد هي النفس الإنسانية الأمّارة بالسُّوء، ومبعثه الهوى الكامن في داخل الإنسان واتباع الشيطان الذي يُوسوس له، ومن ثمّ يظهر في سلوك الإنسان وتنتقل عدواه إلى المجتمع، فإنّ الدين وكتابه القرآن، أقدر من غيره على معالجة هذه البلوى ومكافحة تلك العدوى، لأنّ الدين أوّل ما يعنى به هو تربية الإنسان وترويض نفسه لطاعة الرحمن وتعديل ميوله وإتجاهاته، وتشذيب شهواته ولذّاته، وتحديد حركاته وسكناته لتكون ضمن دائرة الحلال والحرام بعيداً عن كل فساد.
فلا تقتصر ملاحقة الفساد على جانب دون جانب، كما هي طريقة غير الإسلام، ونهج غير القرآن، من خلال تشديد القوانين أو تثقيف الناس دون تطهير دواخلهم أو تهذيب بواعثهم، بل إنّ الدين، وهكذا منحى القرآن، يبدأ بذات الإنسان ويسمو بها، ويُلطِّف مشاعرها، ويعلو بمقاصدها، لتكون خيِّرة في أصلها، بعيدة عن الشرّ في مراميها.
وما تأكيد الإسلام على سلامة القلب وصحّة النيّة وسلامة المقصد إلاّ لأنّ الأفعال تابعة للأفكار، والوسائل متّجهة نحو الغايات.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فالإيمان هو ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، وهو ما نطق به اللسان، وظهر على الجوارح والأركان، لذا يهتمّ الدين بتربية الفرد وتأديبه وتعليمه وتزكيته، ليتحلّى بمكارم الأخلاق والطيِّب من الكلام والصالح من العمل، كما قال تعالى: (لَقَد مَنَّ اللهُ على المُؤمنينَ إذ بَعَثَ فيهِم رسولاً مِن أنفُسِهِم يَتلوا عليِهم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكمةَ وإنْ كانوا مِن قبلُ لفي ضَلالٍ مُبين) (آل عمران/ 164).
وقال تعالى: (… إلَيهِ يَصعَدُ الكِلَمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ…)(فاطر/ 10).
هذا فضلاً عن أنّ الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، يخلق عند الإنسان توازناً وتعادلاً يحيد به عن الكثير من الدوافع والحوافز الباعثة للإفساد، فالمؤمن بالله وعبودية سائر البشر، بل سائر الكون له، يعيش حالة إستحضار ألوهية الله وربوبيته، ومراقبته ونظارته لأعمال الإنسان، فيخاف معصية الخالق، ويهاب جبروته، ويستحي من ربوبيته ونعمته عليه، فيرتدع عن الذنب وسوء الفعال، كما إنّه يستشعر عبوديته وإشتراكه في ذلك مع سائر الناس، فلا يطغى عليهم وهو مثلهم، ولا يستولي على أموالهم وهي حقّهم، وليس له حق في مالهم وقد أولاهم الله ذلك، وهو مسؤول عن رعاية حرمتهم، بل عليه أن يسعى لخدمة عباد الله ومساعدتهم بدل ظلمهم وأذاهم.
والمؤمن باليوم الآخر، يعلم أنّه لا تغيب عن الله شاردة ولا واردة، وهو ملاقٍ عمله، قلّ أو كَثُرَ، (فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَه * ومَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)(الزلزال/ 7-8)، وهذا الإيمان يُحيط به ويحفظه عن الحرام كما يوجهه ويشجعه نحو فعل الخير والعمل الصالح.
والإسلام، بكتابه المحفوظ بين الدفتين، وهو قرآنه، المتلو من قبل سائر المسلمين، يُوفِّر تذكرة دائمة، ونصيحة حاضرة بأفضل الكلمات، وأجمل المقالات، وبأتمّ الأمثلة، وأحسن القصص التي تعرض المفاهيم وتُجسِّد المصاديق وتُوضِّح التطبيق وتُبيِّن الطريق إلى الصلاح والإصلاح، بعيداً عن الفساد والإفساد.. أكثر من أن يُوفِّر ذلك دستور منصوص أو قانون مقرّر آخر، فللدين تأثيره العميق في وجدان الناس وبعث مشاعرهم الخيرة وإثارة كوامن فطرتهم ومكنونات عقولهم، فضلاً عن أن سائر تعليماته ومجموع أحكامه تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان وتدعو إلى العدل والقسط وإحترام الناس وحفظ حقوقهم، وهذا هو عين الصلاح.
وأخيراً، لم يترك الإسلام نظام المجتمع وشؤونه المختلفة، ليكون ديناً شخصياً بين الإنسان وربّه، وإنّما عمد إلى وضع الأسس القويمة للنظام العادل والمجتمع الصالح، وسنّ التشريعات اللازمة لذلك، فحرّم كلّ فاسد وسيِّئ ومُضر، وأوجب كلّ ما يصلح المجتمع ويسعد الناس، ممّا تحتاجه حياتهم وتتكامل به ديانتهم، فتلاقت مناهج القرآن في الهداية والإصلاح على مستوى ذات الإنسان وسلوكه الخارجي، في حياته الفردية والإجتماعية، لتشكِّل منظومة رائعة ومتكاملة.
والنهج في ذلك هو القرآن، فهو الهادي وهو الصراط، وهو دستور الأخلاق ووثيقة الإصلاح، به تسعد الدُّنيا وتطيب الآخرة، ولذا كان التمسُّك به وإقامة شرائعه، سبيل المُصلحين، وبه فلاحهم ونجاحهم.
قال تعالى: (والذين يُمَسِّكُون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر).
اللهم اجعل القران نور لنا