إنجذابات متخبّطة
تاريخ النشر: 07/11/16 | 4:40تحسُّ باضطراب غريب لم تعتاده من قبل، على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى، التي تستعدَّ فيها أُهبة لملاقاةِ شابّ، ماذا بها؟ أهو حسّه السّاخن الذي سمعته مرات كثيرة عبر المذياع، أم صورته التي فتّشت عنها حتى لقيتها وبات وجدانها هو الحبيس؟ تذكر تماما حينما اندفعتْ موجات حسّه المرهف اللين المخفي بليونة إلى أسماعها عبر المذياع، تلك الليونة التي لا يعيها إلا كل مصغي فقط، وهي تقود دراجتها الهوائية راجعة من عملها في زحمة سير المدينة، التي باتت تشاهد طرقاتها كالمسارات الضيقة غير المستوية، والتي تحاول السيارات الكبيرة المرور فيها، فلا يزيد الأمر عن انغلاق هذه المسالك، ويبقى الناس جالسين بداخل السيارات، واهنين ويرجون في محاولة تخليص من هؤلاء الآخرين الغرباء، الذين لا يكترثون للموضوع، ولا ينكشفون نهائياً.
لكن ما زال حسّه يفتنها كلما سمعته، هذه الليونة الممتزجة بالغمّ تجعلها تحسّ باختلاج ساخن شهي يدبّ في مفاصلها، سؤال يلجّ عليها بجنونٍ منذ اتفقا على المواعدة، كيف يكون اختلاط الحسّ بالشكل والروح في وقت واحد، هل ستسرّ بذلك الاختلاط، هل سيصبح مكتملا، وتحسّ به كما ظنّته، هل سيكون أحلى؟ هل سيكون أردأ، هل من المحتمل أن تضيّع شعورها به إذا تمّت الصورة، وتظل متنسّكة تصلّي في حجرة حسّه الساحر عبر المذياع.
خواطر كثيرة تنسمُ بدماغها، ولم تمنحها الوقت اللازم لأخذ حقّ من الرقاد، أتى المساء، نشّطها الحمّام الساخن السريع، وجعل النشاط يدبّ في جسدها بعد كسلٍ مضطربٍ انتشر نهارا بأكمله، لبست تنورةً من الساتان الحريري بلون زهريّ فاتح وبلوزة سوداء، وضعت الحذاء ذي الكعب العالي، وضعت روائحها المفضلة لنفسها، وأحسّت برعدة إزاء شمّها زادت من حالة الحيوية المسائية، التي قلّلت كثيراً من شدة اضطرابها.
انتقت حيزا يألف قلبها إليه، مطعم قديم بديكورٍ غريب يشرف على البحر له شبابيك زجاجية كبيرة تجعلها تتأمل هذا البحر الهائج في اضطراب، فضلت اللقاء الساعة الثامنة مساء، وهو الوقت الذي عادة ما تكون فيه في قمّة حيويتها الذهنية، ولم ترد أن يشوّش هدوء ملاقاتهما أي متطفل، حتى لو كانت رنات موبايلها.
جلست على أريكتها المحبّبة بجوار بحرها رفيق حياتها، قعدتْ تنتظر، الوقت كان يمر ببطء، رنت متثاقلة إلى الموبايل لترى الوقتَ، ولاحظت بأنه مضى أكثر من ربع ساعة، وبينما هي تترنو إلى إشارات الوقت على الموبايل بانفعال، سمعت حساً يصرخ بلين عبارة سلام، فقامت وحيّت صاحب الحسّ في سرور مجنونٍ وناظرة إلى ملامحه الرقيقة متأملة سحر بذلته الغريبة اللون.
فأخذا يتحدثان في مواضيع كثيرة، وبدا كلامها ممتعا له، فهو يتكلم ويردّ وأحيانا يحتجّ ويفكّر في حديثها في انتباه مجنون، اعتادت هي أن تكون بريق الجلسات بين صديقاتها الصامتات دائما، فهي تمتلك فنّ إدارة الثرثرة الممتعة بيسر يعاونها في ذلك مزاجها المبتهج، بدأت تحسّ به ينبلج وهو معها، وهي تعي أن الشابّ يسطع ويتوهج فقط برفقة المرأة الملائمة، ولكن بعد مرور ما يقرب من الثلاث ساعات، بدأ انجذابها يخفت قليلا، انتابها شعور قوي بأنهما صديقان يحبّان الثرثرة ليس إلا، وتساءلت أين ذلك الانجذاب المستور، الذي كانت تحسّ به حين تسمع حسّه من خلال المذياع، هل كان جزءاً من هذا الانجذاب مجرد وهمها، أو من تفاعل صوته مع حلقة برنامجه، الذي عادة كانت تحاور أمور العشق، والغرام، فظنته البطل المختبئ لهذه الحكايات المتنوعة.
أضاعت تركيزها في الحديث معه، ولاحظ هو ذلك، وتغاضاها بذكائها الذكوري، وتحجّج بمرور الوقت بسرعة، وأنه مرتبط بموعد عمل ضروري لمشروع مهمّ، وشكرها على استضافتها اللطيفة لاحتساء النبيذ الغريب الطعم، فرجعتْ إلى بيتها والتفكير يوشك أن يذبحها، أين هيئته التي كانت في عقلها، هيئته الروحية التي تجسدت بداخلها على مرّ السنتين الماضيتين، فهمتْ على حين غرّة من التفكير أن عقلها حاول أن يخلط بين ما تحسّ به في خيالها، وبين حقيقة ما شاهدت فلم تقدر.
أسبوعان مضيا، وحياتها تمشي بذاك اضطرابها، وإن أحجمت عن مشاهدة حلقات برنامجه، الذي كان مفضلا لديها. قاعدة هي أمام جهاز تلفازها القديم تشاهد برنامجا عن العنف الأسري، وإذ بان هو كمتحدث دُعي من قبل المحطة الفضائية للحديث عن العنف الأسري، ابتسمتْ بحزن، فقامت وأسكتت صوته بكبسةٍ على الريموت، وراحت تتبصره مرة أخرى، فأطفأت الجهاز، وخطت نحو مخدعها لتحسم وقتا صعبا حان له أنْ ينفذ من انجذابات متخبّطة.
عطا الله شاهين