د. يوسف عراقي بحوار مع خلود فوراني سرية

تاريخ النشر: 11/11/16 | 5:29

د. يوسف عراقي في حوار له مع خلود فوراني سرية- نادي حيفا الثقافي.
(نشر هذا الحوار في جريدة “المدينة” بتاريخ 2016/11/04).

استضاف نادي حيفا الثقافي د. يوسف عراقي بمناسبة مرور أربعين عاما على مجزرة تل الزعتر وإشهار الطبعة الثالثة لكتابه الوثيقة ” يوميات طبيب في تل الزعتر”. وبهذه المناسبة تمت محاورته حول كتاب وذكريات المجزرة.

1.بعد مرور 40 عاما على مجزرة تل الزعتر، لم يتركوا بقعة دون دم على الرمل كي نشرح للأولاد كيف كان لون الرمل في تل الزعتر! طويت الصفحات وترسخت الفجيعة في أرواح الناس (من بقي منهم). بعد هذا الفقد: بداية يظنون أنهم عادوا لحياتهم الطبيعية التي لم تكن طبيعية يوما : أن تعيش في بيتك، لا بيت لك. أن تقابل أصدقاءك، صاروا في خبر كان. أن تصلي في بيت الله، لا وجود لهذا البيت. أن تذهب الى المدرسة، لا مدرسة. أن تقبل يد أمك صباحا، لا أم ولا صباح. أن تلاعب أولادك مساءً، لا أولاد ولا مساء…

لا أثر للحياة … وكأن تل الزعتر في حينها عاد إلى سنة 1976 قبل الميلاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى !!

ما وضع الضحايا ” الناجين” اليوم؟ والرعب الذي يعيشونه منذ أربعين سنة ؟

جواب: بداية، اسمحي لي أن أقدم شكري لنادي حيفا الثقافي لمبادرته المباركة لتكريمي بأمسية نظمها بهذا الشأن وأتاح لي لقاءك لهذه المحاورة.

الحديث عن تل الزعتر من الوطن له طعم آخر. من بقي من أهالي تل الزعتر منتشرون في المنافي كندا، لندن، ألمانيا، أستراليا… وأنا على تواصل معهم . قبل حوالي ثلاثة أشهر كنت في بلجيكا وكان إحياء ذكرى المجزرة وألقيت كلمة في هذه المناسبة وشعرت بارتباط الناس هناك بما حدث، من أبناء الجيل الثاني والثالث الذين خلقوا عالما جميلا وأعادوا رسمه من جديد.

2.”وظلم ذوي القربى أشد مضاضة علي من وقع الحسام المهند”
أكثر من ألفي مفقود من أبناء المخيم ما زال مصيرهم مجهولا. قد باشر الصليب الأحمر منذ أربع سنوات بمعالجة الموضوع، إلا أن صوتا يقول إن الدولة اللبنانية لا ترغب بفتح جراح الحرب ونبش الأحقاد. والقيادة الفلسطينية أيضا غير مقصرة أبدا في تهميش مذبحة ” تل الزعتر”.

-لو كان الجاني من غير ذوي القربى، هل يكون أهون عدم تهميشها مثل في صبرا وشاتيلا ؟
-هل لهذا التهميش علاقة بتقصيرها تجاه الضحايا وتواطئها مع الأنظمة الرجعية؟
-وهل قبضت القيادة ثمن دماء الشهداء؟

جواب: منذ البدايات أريدَ لهذا الملف أن يُغلق. لم يرد أحد أن يتحدث عنها. لدرجة أنني شعرت أن ما راح قد راح وسيُمّحى. لهذا، من الأشهر الأولى بدأت بتدوين يوميات لتوثيق المجزرة رغم أنه لا يمكن كتابة كل التفاصيل. كان عملا ملحميا قام به كل من وقع تحت الحصار، فلسطينيون لبنانيون وسوريون. حتى الأطفال والنساء شاركوا بهذا الصمود. كان للمرأة دور بطولي استثنائي قي تل الزعتر. أحمل بداخلي همّا ومسؤولية كبيرة لنقل ما حدث. وهذا السبب الأساسي لكتابة يومياتي.

3.” تل الزعتر” محطة مأساوية أخرى من محطات اللجوء الفلسطيني على مر السنين. لكنها لم تحظ بالبحث والتوثيق الكافيين لحفظهما .

-ألم يحن الوقت لعولمة المجزرة؟ ترجمة كتابك للغات العالم لنوصل صوت تل الزعتر وضحاياه إلى العالم؟
-ألم يحن الوقت لفيلم مثل ” قائمة شندلر” ؟
-وهل أعتبر وثيقتك قطرة، سينهمر بعدها الغيث ؟

جواب: لقد تم نشر كتابي باللغة البلغارية. ونُشر على شكل يوميات في صحف عريقة أيضا كصحيفة LE MONDE الفرنسية. وفي كندا ترجمه فلسطينيون تبرعا إلى الانجليزية. وعُرض فيلم وثائقي حول مخيم تل الزعتر ضمن إفلام وثائقية في لندن تأثر وتفاعل معه الشباب. فمهمتنا أن نوصل الذاكرة الجمعية كي لا تندثر. وهناك توجه لترجمته للألمانية والنرويجية. مهم جدا بعد أربعين عاما أن نذكر الناس أننا لم ننس ولن نغفر، وعلى المجرم أن يدفع الثمن.

4.لكل شخص وكل فرد من أبناء تل الزعتر له أسم وحكاية مأساوية يرويها.( الحاجة أم فهد الناجية من نسف الملجأ قالت: “أتذكر كل الوجوه لكن لم أعد أتذكر الأسماء… تعبت ذاكرتي”.
ماذا عن الرواية الشفوية(التي غابت بفعل صمت الضحية) وتدوين شهادات تفصيلية للناجين من المجزرة ؟(كما وثقت شهادة الممرضة فريال أبو سويد والممرض عارف)؟

جواب: من يكتب التاريخ هو المنتصر. أنا فخور أن الطبعة الثالثة لكتابي صدرت في حيفا وسعيد جدا بهذا. تل الزعتر مخيم جليلي بامتياز. فهو مكون من 70 قرية من قرى الجليل. ولدى الناس شوق كبير لأن يكونوا بأرض الوطن. بالنسبة للشهادات، أنا بتواصل مستمر مع أشخاص من المخيم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، يروون ويتحدثون معي عما حدث وعن دوري الذي لم يتوقف عند مهنة الطب إنما كصديق وابن وأخ وأب لهم عاش مأساتهم.

5.لماذا لم نخلد ذكرى الشهداء؟ ولماذا قصرنا بحق الضحايا والمناضلين الذين كتبوا هذا التاريخ بدموعهم ودمائهم؟ لماذا لا توجد مؤسسة في كل قرية ومخيم تحمل اسم تل الزعتر وضحاياه؟ كإيفا شاتال مثلا؟
جواب: كنت قد اقترحت على لجنة تل الزعتر في لبنان أن يسموا ولو شارعا باسم تل الزعتر أو ساحة، لكن لم يحدث. لهذا أرى هنا نضالنا هو ضد عملية محو الذاكرة والوعي. أنا أعتبر حيفا المبتدأ والخبر شعرت أنها بلدا عربيا بامتياز والحركة الثقافية في هذا البلد مدّتني بالأمل.

6.”ويل لأمة كثرت طوائفها وقل دينها”.
في وصفك الحال خلال الحصار ذكرت أنه قربنا الحصار والإحساس باقتراب الموت إلى بعضنا البعض. العلاقات الاجتماعية والانسانية في المخيم قربتنا بتأثير الحصار.

-ما رأيك بحالنا اليوم، والتطرف الطائفي على أشده ؟
-ومن قائد كجبريل رجوب يستعمل مصطلح “جماعة الكريسماس”،
-بعد أن كنا في خندق واحد وأصحاب هم واحد؟

جواب: المأساة التي عاشها الأهل في تل الزعتر جعلت كل المعايير الطائفية والانقسامات والاختلافات تتقزم. كان قد وصلني كتاب (الحجارة الحية) لفؤاد فرح و(المهد العربي) لسميح غنادري عندما تفوه جبريل رجوب بهذا الكلام، فنشرت تلخيصا لهذين الكتابين على صفحتي ردا عليه.

بما أنك منخرط في الحياة في (الغربة) النرويج، وبتواصل مع مشردي تل الزعتر في الشتات، ما وضع الفلسطينيين هناك؟ كيف يرون علاقتهم بفلسطين بالنسبة للجيل الثاني والثالث ؟

جواب: نحن في الشتات بتواصل مستمر، وقد نظمنا العام مهرجانا في برلين وآخر في بيروت لذكرى تل الزعتر تم فيه تكريم عائلات الشهداء. وكان حضور كبير وتفاعل شديد شعرت من خلاله برغبتهم المستميتة أن تطأ أقدامهم أرض فلسطين. رأيت في الجيل الثاني والثالث جيلا يحمل الراية.

7.” كنت أتمنى في سريرة نفسي أن يبقوا هنا سالمين بدلا من ذهابهم إلى الملاجئ ليعودوا جرحى مصابين أو محملين. لكن كنا مضطرين لإقناعهم بالخروج من المستشفى لتسهيل عملنا الذي أساسا أصبح مستحيلا” (ص 29 من كتابك).
هذا الوصف يعكس هول الأحداث… فمن لم يمت بالذبح مات بالقنص أو بالقذيفة أو مخنوقا تحت الأنقاض أو من شح المياه أو..أو.. تعددت الأسباب والموت واحد.
“كأن المجرمين ملوا من رتابة الجمال فرأوا بالبشاعات خصوبة لا تنتهي”.
هل لك أن تحكي لنا عن هذا ؟

جواب: فعلا ! أصبح الإنسان محتارا بأية طريقة سيموت ! هو متأكد من موته الحتمي لكنه قلق بشأن الطريقة التي سيقتل فيها !

8.النضال ليس فقط بحمل البندقية..
ريشة فنان هي نوع من أنواع النضال.. قلم كاتب أو أديب نوع من أنواع النضال.. حنجرة فنان.. قصيدة شاعر.. حتى إبرة وخيط هي نوع من أنواع النضال.
سنظل نحرص على جمر النشيد في قصيدة محمود درويش ليظل أحمد الزعتر ينبض في مخيم “ينمو وينجب زعترا ومقاتلين”
ما رأيك حيال هذا النوع من النضال ؟

جواب: النضال كلمة شاملة ورسالة. السؤال كيف نوصل رسالتنا إلى العالم. يجب أن نوصل الرسالة لكل المستويات. فهناك صورة نمطية عن الانسان العربي الفلسطيني. وأرى بمحمود درويش أعظم إنسان فلسطيني تكلم بالسياسة وله نص نثري رائع جدا عن تل الزعتر.

9.شاهدت لك رسومات ولوحات فنية. هل رسمك نوع من الانعتاق، أو متنفس مما يجثم على صدرك؟
جواب: نعم. ورسوماتي كلها تتمحور حول فلسطين ومدنها. أعود بعد عملي في العيادة منهكا، فأجد باللوحات التي أرسمها جسرا نحو فلسطين.

10.ليلة الأمس، وفي كل حرف قرأتُه، كنت أتمنى أن يكون ما أقرأه شريطا سينمائيا ليس أكثر ! عقلي لم يستوعب البشاعات، وقلبي نزف من ألم الكلمات.
وللصراحة أكثر، كنت متوجسة من لقائي بك اليوم، هل بعد الأهوال التي مررت بها ورأيتها، هل بقي د. يوسف بكامل وعيه وعقله وصحة قلبه ؟

جواب: في علم النفس، يمر الانسان بأربع مراحل نفسية بعد مشاهد صادمة كهذه. وللحقيقة أنا ما زلت مع ما يسمى بحالة Flash Back، استرجاع. ومنذ تل الزعتر لم أنم نوما متواصلا ولو لليلة واحدة. ولم يعد باستطاعتي مشاهدة التلفاز والحوادث والبشاعات التي يرتكبها البشر فيخلق عندي تداعيات . مررت بمرحلة جمود عاطفي ولم أتخيل أنني سأتزوج يوما وأعيش حياة طبيعية. ووفاء للذين استشهدوا ومسؤولية أمام الجيل الجديد أن يعرف ما حصل كنت أتحدث عما يحدث كل يوم رغم الألم .

11.مذبحة من أبشع المذابح في تاريخ النضال الفلسطيني.. اثنان وخمسون يوما من الصمود الأسطوري.. مقاومة باسلة انتهت ب أكثر من 6000 جريح و 4000 شهيد، استُشهدوا ولم يستسلموا كما قدّروا لهم. لتنتهي بذلك الملحمة الأسطورة لمخيم صغير في قلب بيروت ” تل الزعتر” عاصمة الفقراء وكومونة الكادحين.
ولم تنته… ولن تنتهي… ما دام لنا عقل يفكر وقلب ينبض ولسان يذكر.
أتود أن تقول كلمة أخيرة في ذلك ؟

كلمتي الأخيرة كما الأولى هي أولا شكري العميق لنادي حيفا الثقافي والقيمين عليه، وفكرة إصدار كتابي بطبعته الثالثة هنا في مسقط رأسي. أعتبر هذا وفاء كبيرا لأهل تل الزعتر الذين سعدوا كثيرا بذلك. وقد شعروا أن الناس هنا ستقدر قيمة وفظاعة ما حدث.
تل الزعتر بالذات يعيش في وجدان الشعب الفلسطيني لأنه يمثل صورة مصغرة عن النكبة. فالمخيم قائم لكن ممنوع العودة إليه.
وأخيرا أشكرك على هذه المحاورة الجادة والقيّمة التي أعادت لي ترتيب أوراقي وحضّرتني لأمسية الليلة في نادي حيفا الثقافي.

(حاورته: خلود فوراني سرية/ نادي حيفا الثقافي)

unnamed

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة