ما هو أصل القول، وهل هو حديث: “إن من البيان لسحرا”؟
تاريخ النشر: 28/11/16 | 6:23روى الإمام البخاريُّ في صحيحه، كتاب الطب، باب: إن من البيان سحرًا، (رقم: 5767)، عن عبد الله بن يوسف: أخبرَنا مالك، عن زيد بن أسلمَ، عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – أنَّه قَدِمَ رجلان من المَشْرق، فخطَبا فعَجِبَ الناسُ لبيانهما، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنَّ مِنَ البَيان لَسِحرًا – أوْ إنَّ بَعْضَ البَيانِ سِحْر–”.
ثمة رواية أخرى، هي البارزة في كتب التراث:أورد الميداني المثل الأول في (مجمع الأمثال) – إن من البيان لسحرا، وذكر قصته:”قاله النبي صلى الله عليه و سلم حين وفد عليه عمرو بن الأهتم والزِّبْرِقان بن بدر وقيس بن عاصم فسأل عليه الصلاة و السلام عمرو بن الأهتم عن الزبرقان، فقال عمرو: مطاع في أدْنَيه ، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا، ولكنه حسدني. فقال عمرو: أما والله إنه لزَمِر المروءة، ضيّق العَطَن، أحمق الوالد، لئيم الخال، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولكني رجل رضيت، فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت. فقال عليه الصلاة و السلام: “إن من البيان لسحرا”- يعني أن بعض البيان يعمل عمل السحر.
ومعنى السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والبيان: اجتماع الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب مع اللسن. وإنما شبه بالسحر لحدة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له”. يضرب القول في استحسان المنطق وإيراد الحجة البالغة.
كما بدأ الحُصْري كتابه (زهر الآداب)، ص 5 بباب “فضل البيان” مبتدئًا بالقصة نفسها. ثم إن الجاحظ أورد في (البيان والتبيين)، ج1، ص 349- القصة وبصورة أخرى:” وسأل رسول الله عمرَو بن الأهثم عن الزِّبْرِقان بن بدر، فقال: “إنه مانع لحوزته، مطاع في أدنيه”، فقال الزبرقان: والله يا رسولَ الله، لقد عَلِم منِّي غير ما قال، لكنه حسدني شرفي، فقصّر بي.قال عمرو: هو والله زَمِر المروءة، ضيّق العَطَن، لئيم الخال”، فنظر النبي في عينيه، فقال عمرو: يا رسول الله، رضيت، فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنَّ من البيان لسحرًا”-. ولَمَّا صدق في مدحه وذمِّه فيما ذَكَر، عَجِب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما يعجب من السِّحر، فسمَّاه سحرًا من هذا الوجه”.
يقول الفيروزأبادي: “السِّحر: كلُّ ما لَطُفَ مأْخذُه ودقَّ، ومعناه – والله أعلم -: أنّه يمدح الإنسان فيصدقُ فيه، حتى يصرفَ قلوب السامعين إليه، ويذمُّه فيصدق فيه، حتى يصرفَ قلوبهم أيضًا عنه. (انظر الفيروز أبادي- القاموس المحيط).
أما ابن منظور في مادة (سحر) في لسان العرب فيسوق لنا قول أبي عبيد:”كأن المعنى والله أعلم أنه يبلغ من ثنائه أن يمدح الإنسان فيَصَْدُق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمّه فيصدُق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه سحر السامعين بذلك”.
ثمة اختلاف في تأويل الحديث، فهل الرسول مدح عمرًا أم ذمّه؟
يورد موقع “إسلام ويب” آراء بعض العلماء:”قال المنذري وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحرًا)، فقيل أورده مورد الذم لتشبيهه بعمل السحر لغلبة القلوب وتزيينه القبيح وتقبيحه الحسن، وإليه أشار الإمام مالك رضي الله عنه، فإنه ذكر هذا الحديث في (الموطأ)- في باب ما يكره من الكلام. قيل إن معناه أن صاحبه يكسب به من الإثم ما يكسبه الساحر بعلمه.
وقيل أورده مورد المدح أي أنه تمال به القلوب ويرضى به الساخط ويذل به الصعب ويشهد له: إن من الشعر لحكمة. وهذا لا ريب فيه أنه مدح وكذلك مصراعه الذي بإزائه”. قال أبو هلال العسكري: “الصحيح أنَّه مدحه، وتسميته إيَّاه سحرًا إنَّما هو على جهة التعجُّب منه لَمَّا ذمَّ عمرو الزبرقان ومدَحَه في حالة واحدة. وفي (ديوان المعاني) يقول:”وسمَّى الرسول البيان سحرًا لدقَّة مسلكه، وأوَّل مَن نطق به رسولُ الله، وهو من أجمَعِ ما مُدِح به البيان”.
أما البيان فقد وصفه الكتّاب، وخاصة الجاحظ، ففي كتاب (البيان والتبيين) فصل خاص في معنى البيان ونماذج منه، ومنها:”تكلم رجل في حضرة الخليفة عمر بن عبد العزيز، بكلام رقيق موجز، فقال عمر: والله إن هذا السحر الحلال”. (انظر الجاحظ- م.س ، ص 350.)
في كتاب الأبشيهي- “المستطرَف في كل فن مستظرَف”- قال ابن المعتز: البيان ترجمان القلوب، وصيقل العقول. وأمَّا حدُّه فقد قال الجاحظ: البيان اسمٌ جامع لكلِّ ما كَشَف لك عن المعنى”. الأبشيهي (المستطرَف، الباب السابع، ص 59).
ملاحظة:كثيرًا ما يروى مع الحديث “وإن من الشعر لحكمة” أو “إن من الشعر لحكما”.انظر (صحيح البخاري) حديث رقم 6145 – باب ما يجوز من الشعر، وما يُكره منه، وكذلك (سنن أبن ماجة)، الحديث رقم 3755 باب فضائل الشعر.وكتاب ابن عبد ربه (العقد الفريد ج5، ص 273- 274)- باب فضائل الشعر.
أ.د فاروق مواسي