تعابير تفهم حسب القرائن: ترِبتْ يداك، ثكلتك أمك، لا أبا لك!
تاريخ النشر: 07/12/16 | 13:25ثمة تعابير ظاهرها دعاء على الشخص، لكنها قيلت كثيرًا في الدعاء له، منها:
تَرِبتْ يداك:
المعنى الأصل: لا أصبت خيرًا، فمعنى ترب – افتقر حتى التصق بالتراب، ومن ذلك قوله تعالى- {أو مسكينًا ذا متربة}- البلد، 16.
وفي (المستقصى من أمثال العرب) للزمخشري:
“تربت يداك” – دعاء على الرجل بالفقر. ج 2، ص 23.
كما أن أبا تمام أورد في (الحماسة)- ج1، ص 218- بيتًا للشاعر سُليْمِيّ بن ربيعة:
تربت يداكِ، وهل رأيتِ لقومه *** مثلي على يُسري وحين تَعلّتي
شرحه التبريزي:
“تربت يداك – أي صار في يديك التراب، وهذا اللفظ يستعمل في معنى الفقر والخيبة، فهو يدعو عليها لأنها لم تعرف أن ليس له من شبيه في حالة يسره وعسره.
لكن الرسول في حديثه الشريف قال:
“تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفَر بذات الدِّين، تَرِبتْ يداك”!
رواه البخاري ومسلم.
فالرسول لم يقصد الدعاء على الرجل، وإنما الدعاء له، فهذا التعبير جارٍ على ألسنة العرب، وهم يقصدون به معنى إيجابيًا، نحو “لله درُّك!”
وفي حديث أنَس قال:
“…كان رسول الله يقول لأحدنا عند المعاتبة: ما له تربت جبينه!”
قيل أراد به دعاء له لكثرة السجود.
قيل في شرح “تربت يداك” بالمعنى الإيجابي:
* فيه تقدير شرط، أي وقع لك ذلك (الفقر) إن لم تفعل، ورجّحه ابن العربي: ” تربت يداك”- أي افتقرتا إن لم تفعل، وهذا دعاء وكلمات لا يقصد معناها، ولكن لمدلولها العام في الحث والتحريض.
* قيل: هي هنا دعاء عليه بالفقر، ولكن لا يراد منه حقيقته، فهو مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أِلْسِنَتِهِمْ”؟!
فالرسول لا يدعو عليه حقيقة بأن يموت، وإنما هو نوع من الخطاب لمن نحب، أو هو تنبيه له. فـ “تربت يداك”، و”ثكلتك أمك”، “لا أبا لك” ونحو هذه من العبارات، تقولها العرب من باب التحبّب، وإن كان معناها في الأصل جافيًا، كأن تخاطب صديقًا وتقول له: يا لعين أين اختفيت؟ وفي الدارجة كثير من ذلك: محروق الحرسة، يا تعبان، ياخذ عقلك، يعدمني إياك، مقصوفة العمر، الله يخزيك….”
كما أنّ اللغة العربية الفصيحة تستعمل ألفاظًا جافية لا تقصد معناها الحرفي، نحوَ:
قَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه! وَلَا أُمّ لَهُ! وَثَكِلَتْهُ أُمّه، ويحه، ويله، وفي الشعر: “ويل لأمه!” ، وَمَا أَشْبَه هذا من أَلْفَاظهم يَقولونَها عند إِنْكَار الشَّيْء، أَوْ الزَّجْر عَنْهُ، أو ذمّه، أَوْ اسْتِعْظَامه، أَوْ الْحَثّ عَلَيْهِ، أَوْ الْإِعْجَاب بِهِ، وكذلك عند التنبيه أو التوكيد، فالجملة تُفهم بالقرائن.
فمثلاً في البيت التالي:
عليك بالسمع من أخباره تربتْ *** يداك هذا حديث المفرَد العلَم
نفهم المعنى بالإيجاب، بسبب كلمات المديح الذي وجهه الشاعر لرسول الله، وليس هنا مكان للدعاء على المتلقي بالفقر.
عن “تربت يداك”ورد في (مجمع الأمثال) للميداني:
“يقول أبو عُبيد: وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب يقولونها ولا يريدون وقوع الأمر، يقولون: لا أرض لك، ولا أم لك، ويعلمون أن له أرضًا وأمًا، قال المبرّد: سمعت أعرابيًا في سنة قحط يقول:
ربَّ العباد ما لنا وما لكا *** قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزِل علينا الغيث لا أبا لكا
(المثل 662- حرف التاء).
لا أبا لك:
أكثر ما ذكر في الأدب القديم بمعنى التنبيه، ويكون معناه لا كافي لك غير نفسك، أو نفي نظيره بنفي أبيه، يقول عنترة:
فاقنَي حياءَكِ -لا أبا لكِ- واعلمي *** إني امرؤ سأموت إن لم أُقتَلِ
وقد يراد جدَّ في أمرك وشمِّر، وذلك شأن من لا أب له يتكل عليه، وقد يراد به مجرد تنبيه السامع وإعلامه، يقول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولاً – لا أبا لك- يسأمِ
بل هناك من استعملها للإغراء والتحفيز.
مع ذلك، فالمعنى في الذم وارد في كل تعبير مما ذكرت، فكما وجدنا معنى (تربت يداك) بالمعنى السلبي، فإننا نجد كذلك معنى (ثكلته أمه) دعاء عليه، كما نجد (لا أبا لك) بالمعنى السلبي، كأن يراد به أنه مجهول النسب، كقول جرير:
أعبدًا حلَّ في شُعَبي غريبًا *** ألؤمًا – لا أبا لك- واغترابا؟
إذن يظل المعنى رهين القرائن.
جدير بالذكر: وقف ابن منظور في (لسان العرب) على معنى (تربت يداك)، وكذلك على معنى (لا أبا لك) وقفة حرِيّة بالاطلاع عليها.
فائدة نحوية:
قيل إن اللام في (أبا لك) إنما جاءت للتوكيد وهي زائدة، والكاف مضاف إليه في محل جر، فـ (أبا) اسم لا منصوب- وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الخمسة، وخبر لا محذوف، ودليل إقحام اللام أن هناك من استخدم (لا أباك) في الشعر، نحو قول المبرِّد:
قد مات شمّاخ ومات مزّردٌ *** وأي كريم لا أباكَ يُخلَّدُ
ودليل آخر على أن اللام زائدة، أن كلمة (أبا) نصبت بالألف، فلو بقيت اللام لحق القول: لا أبَ لك- اسم مبني على الفتح في محل نصب.
ب. فاروق مواسي
مقال جميل جدا…شكرا جزيلا
هل لي باستأذانكم في الاشارة علي بكتب وكتاب لمثل هذه المواضيع (أي:الكلمات التي تسبب التباس وأيضا ما يوضح ثقافة العرب اللغوية في بدايات الاسلام واشهر مصطلحاتهم )