جولة في بعض فضائل الشعر
تاريخ النشر: 16/12/16 | 8:35مما أعجبني في تعريف الشعر، وبيان من هو الشاعر ما ورد في (العُمْدة) لابن رشيق، حيث يقول:
وإنما سمي الشاعر شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليدُ معنى ولا اختراعُه، أو استظرافُ لفظ وابتداعه، أو زيادةٌ فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقصٌ مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرفُ معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير”.
(العمدة ج1 ، ص 96)
فليسأل الشاعر إذن نفسه:
هل أتى بجديد؟
هل هو شاعر في الحقيقة أم في المجاز؟
الحديث عن الشعر يطول، وقد ورد في مئات المصنّفات، لكنني سأقوم معكم بجولة أدبية تراثية فيها الغَناء، وهي الغيض من الفيض، جمعتها بوحي من ذائقتي وروايتي، فلعلي أوفّق في اختياري وفي معالم جولتي.
أفرد (العقد الفريد) صفحات كثيرة للحديث عن فضائل الشعر، بدأها باهتمام الرسول عليه السلام بالشعر وأربابه، وسأقتطف منها ما تيسر:
“ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب وجليل خَطْبهِ في قلوبهم أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمُه المُحكمِ تأليفُه، وأعجب قريشًا ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر.
وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم: {أم يقولون شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون}- الطور، 30.
وكذلك قال النبي في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْرًا.
وقال – إنَّ من الشعر لحِكْمة.
من فضائل الشعر أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ناشد أن يقال في هجاء المُشركين، يدُل على ذلك قولُه لحَسان:
شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، وتَحفظْ ببَيْتي فيهم.
قال: والذي بعثك بالحقّ نبيًَّا لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين.
ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنَبـَة أَنفه وقال: والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه أو على شَعَر لحَلقه.
فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيَّد الله حسّانًا في هَجْوه برُوح القُدس.
من ذلك أيضًا أنه قال لعبد الله بن رَواحة: أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني.
وقال عمر بن الخطّاب: “الشعر جَزل من كلام العرب يُسكَّن به الغَيظ وتُطفأ به الثائرة ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم وُيعطى به السائل”.
روي عن عمر كذلك أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري:
“مر من قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب”.
ولعمر صولات وجولات مع الشعراء، ومن أجمل ما قرأت مقالة لعلي الجارم “الفاروق الأديب الناقد” يدل فيه على ذوفه الرفيع، واطلاعه الدقيق على القول البديع، وما زلت أذكر جملته عن زهير بن أبي سُلمى “كان لا يعاظل الكلام”.
(علي الجارم- كتاب “الجارميات”، ص 181.)
قال ابنِ عبّاس: الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه وعليكم بشعر الحِجاز.
هكذا كان اهتمام السلف الصالح بالشعر:
قال معاوية: “يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبتْ لي همتي وأبى بلائي … وأخذي الحمدَ بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي … وضربي هامةَ البطل المُشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت … مكانك تُحمدي أو تستريحي
لأدفعَ عن مآثر صالحات … وأحمي بعد عن عِرض صحيح”
(ابن رشيق:العمدة ج1، ص 15.)
قال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: “روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا”.
وقالت عائشة: “روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم”.
وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون منِ العِلم، فوجده عالمًا بكل ما سأله عنه.
ثم أستنشده الشعر فقال: لم أَرْوِ منه شيئًا.
فكتب معاويةُ إلى زياد: “ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر، فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ، وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو، وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل”.
وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لَبيدًا كان يقول:
قَضِّ اللُبانةَ لا أبا لك وأذهبِ *** والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب
فكيف لو أدرك زَماننا هذا!
ثم قالت: “إني لأروي ألفَ بيت له وإنه أقلُّ ما أروي لغيره”.
…
وقال الشَعبيّ: “ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر، ولو شئتُ أن أنشد شعرًا شهرًا لا أعيد بيتًا لفعلت”.
المقتبسات من:
ابن عبد ربه- (العقد الفريد)- كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر، ج5، ص 273- 280.
ومن فضل الشعر:
قال أبو فراس الحمْداني:
الشعر ديوان العربْ *** أبدًا وعنوان الأدب
لم أعدُ فيه مفاخري *** ومديح آبائي النُّجُب
ذلك لأن فيه كما ذهب عبد القاهر الجرجاني “الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب، وأنه مجنَى ثمر العقول والألباب، ومجتمعَ فِرَق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد من الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضين مخلدة في الباقين، وعقول الأولين مردودة في الآخرين، وترى لكل من رام الأدب وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل منارًا مرفوعًا وعلمًا منصوبًا وهاديًا مرشدًا ومعلّمًا مسدّدًا…”.
(دلائل الإعجاز- تحقيق محمود محمد شاكر، ص 15.)
في هذا الكتاب المميز تجدون فصل الكلام عن الشعر، وفيه جولات وصولات كثيرة لا غنى عنها للباحث الذي يستقصي. (ص 11- 28).
عَناصِرُ الشعر التي يجمل بالنص أن يتحلى بها:
العاطفة، الفكرة، الخيال، الأسلوب، وكل منها له وصف تناول النقاد طرائقها وأبانوا وجهات
نظرهم فيها، وكل منها له تفصيل يختلف باختلاف النقاد في ثقافاتهم، وهذا أمر لا مندوحة فيه.
…
قد يدخل النظم ضمن الأسلوب، إذ يقول حازم القرطاجني:
“النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها؛ فإذا أحاطت بذلك علمًا قويت على صوغ الكلام بحسبه عملا، وكان النفوذ في مقاصد النظم وأغراضه وحسن التصرف في مذاهبه وأنحائه إنما يكونان بقوى فكرية واهتداءات خاطرية تتفاوت فيها أفكار الشعراء”.
ويحتاج الشاعر إلى قوى عشر تعينه على نظم الشعر ذكرها القرطاجني كذلك وهي:
1. القوة على التشبيه فيما لا يجري على السجية، ولا يصدر عن قريحة بما يجري على السجية ويصدر عن قريحة.
2. القوة على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد ليتوصل بها إلى اختيار ما يجب لها من القوافي…
3. القوة على تصور صورة للقصيدة تكون بها أحسن ما يمكن (من حيث ترابط أجزائها).
4. القوة على تخيل المعاني بالشعور بها.
5. القوة على ملاحظة الوجوه التي يقع بها التناسب بين المعاني.
6. القوة على التهدي إلى العبارات الحسنة الوضع والدلالة على تلك المعاني.
7. القوة على التخيّل في تسيير تلك العبارات متّزنة.
8. القوة على الالتفات من حيّز إلى حيّز والخروج منه إليه والتوصل به إليه.
9- القوة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض، والأبيات بعضها ببعض، وإلصاق الكلام ببعض على الوجوه التي لا تجد النفوس عنها نبوة.
10- القوة المائزة حسن الكلام من قبيحه بالنظر إلى نفس الكلام، وبالنسبة إلى الموضع الموقَع فيه الكلام.”
(منهاج البلغاء، – طبعة دار الغرب الإسلامي، ص 200)
الشعر الجيد في عرف النقاد هو الذي يحدث أثرًا في المتلقي، وكلٌّ له ما ينفعل منه وبه، وتتفاوت درجات التلقي باختلاف إحكام الشاعر لصنعته، ومراعاته لمواصفات الجودة التي ينحو صوبها، ذلك أن الجيد من الشعر هو من تجد له من الروح والخفة والإيناس والبهجة- كما ذكر ابن الأثير في (المثل السائر، ج1، ص 277 المكتبة العصرية).
في هذا الشأن أسوق نصًا لابن طباطبا يقول فيه:
” فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ،التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيبًا من الرقى، وأشد إطرابًا من الغناء، فسلّ السخائم، وحلل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان”
(ابن طباطبا- عيار الشعر، دار الكتب العلمية، ص 22)،
فما أروع الشعر إذ يؤثر في المتلقي ويمازج روحه، ويدخله في جو الغبطة، ومن يدري فقد يغير بعض سلوكه.
لا بد ان تتوافر في الشعر شروط لفظية، ومعنوية، وإيقاعية، وتخييلية، تتضافر فيما بينها لتخلق لنا شعرًا يوسم بميسم الجودة الفنية.
لكني وأنا أترك لكل تصوره ورؤيته وخِياره- لا أثق إلا بمن يمتلك الأداة ويعرف جوهر الكلام، وخبر أفانين القول، واستقى حتى ارتوى.
أكرر: واستقى حتى ارتوى.
ب.فاروق مواسي