جزاء سنمار
تاريخ النشر: 23/12/16 | 5:22جزاء سنمار- مثل يُضرب لمن يُجازى بالإساءة بدل الإحسان، ولمن يقابل المعروف بالمنكر.
سأقوم بجولة في المصادر لأتبين اختلاف الروايات، وفي ذلك فائدة وغَناء.
سِنِمّار مهندس يقال إنه رومي.
ينسب له بناء قصر الخَوَرْنَق الشهير في الكوفة. يضرب به المثل “جزاء سنمار”، ذلك لأنه عند انتهائه من بناء القصر للملك النُّعمان بن المنذر، وقد استغرق بناؤه عشرين عامًا، قال للملك إن هناك آجُرّة لو زالت لسقط القصر كله، وإنه لا يعلم مكانها غيره، وإنه يستطيع بناء قصر أفضل من الخورنق، فما كان من صاحب القصر إلا أن ألقاه من أعلى القصر، كي لا يخبر أحدًا عن تلك الآجرة، وكي لا يبني بناء أفضل، ولعل ذلك هو السبب في ضرب المثل.
كما ذُكر أنه قال:
“إني لو شئت جعلت القصر يدور مع الشمس حيثما دارت.
فقال الملك: إنك لتحسن أنَّ تبني أجمل منه؟ فطرحه من أعلاه.
فضرب به المثل لمن يجزي الإحسان بالإساءة.”
أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، ج 2، ص 136. (طباعة دار الفكر).
رواية أخرى وردت في (الأغاني):
” وأما صاحب الخورنق فهو النعمان بن الشقيقة، وهو الذي ساح على وجهه فلم يعرف له خبر؛ والشقيقة – أمه – بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شبيان. وهو النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عَدِيّ بن نصر بن ربيعة اللخمي.
ذكر بن الكلبي سبب بنائه الخورنق:
أن يَزْجَرَدْ بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدُلّ على ظهر الحِيرة؛ فدفع ابنه بهرام جور بن يزدجرد، إلى النعمان بن الشقيقة، وكان عامله على أرض العرب، وأمره بأن يبني الخورنق مسكنًا له ولابنه، وينزله إياه معه بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه لبنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت!
فقالوا: وإنك لتبني ما هو أفضل منه ولم تبنه؟! ثم أمر به فطرح من رأس الجوسق.
وفي بعض الروايات أنه قال: إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر”.
الأغاني- ج2، ص 137- دار الفكر (مادة عدي بن زيد).
وقد تناول الشعر قصة سنمار هذه، وضربه مثلا للرجل المجحود الفضل المنكَر الجميل، فقال أبو الطَّمَحان القَيْني:
جزاءَ سنمارٍ جزَوها، وربَّها … وباللّات والعُزّى، جزاءَ المكَفِّرِ
وقال سليط بن سعد عن أبي الغيلان عن بنيه حين جحدوه فضله وجميل فعله، وقد أخذ منه الكبر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر … وحسن فعل كما يُجزى سنمار
يقال إن النعمان بن الشقيقة حين رأى كل ذلك وتبصر فيه ارعوى قلبه، وفكر في فنائه وفناء الإنسان. ويقال أنه نزل من الجوسق، وانطلق إلى الصحراء ولم يعثر له على خبر.
(الأغاني- ن.م)
ثمة رواية أخرى وردت في (مجمع الأمثال)، وهي لا تتعلق بالنعمان:
قيل: إن سِنمَّار كان غلامًا لرجل يُدْعى “أُحَيْحة بن الجُلاح”، وأنه بنى له أُطُمًا، فلمَّا أكمله، قال: إني لأعرف حَجَرًا لو انْتُزع لتقوَّض من آخره، فطلب منه سيِّده أن يريه إياه، فلمَّا أراه إياه، سأله: هل يعرفه أحدٌ غيرك، قال: لا، فرمى به من أعلى الأُطُم.
(مجمع الأمثال) للميداني- جزاء سنمار، المثل 828.
وردت حكاية سنمار في أبيات شعرية، إذ هناك من شكا بسبب جزاء جوزي به، وذكر لنا قصة المثل:
جَزَانِي جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ *** جَزَاءَ سِنِمَّارٍ وَمَا كَانَ ذَا ذَنْبِ
سوى رصّه البُنْيَانَ عِشْرِينَ حِجَّةً *** يَعُلُّ عليها بِالْقَرَامِيدِ والسَّكْبِ
فَلَمَّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمَ تَمَامِهِ *** وَصَارَ كَمِثْلِ الطَّوْدِ وَالْبَاذِخِ الصَّعْبِ
وظن سنمارٌ متى تمّ أنه *** يفوز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعِلجِ من فوق شاهق *** فهذا لعمرُ الله من أعجبِ الخَطبِ
انظر الأبيات في:
“المستقصى في أمثال العرب”؛ للزمخشري، ج 2، ص،52.
تروى الأبيات – مع اختلاف يسير فيها- على أنها
لعبد العُزّى بن امرئ القيس الكلبي (خزانة الأدب- الشاهد الثالث والأربعون، ج1، ص 294:
“قال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى إلى الحارث بن مارية الغساني أفراسًا ووفد إليه فأعجب به واختصه، وكان للملك ابن مسترضَع في بني عبد وُدّ – من كلب – فنهشته حية، فظن الملك أنهم اغتالوه؛ فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم! فقال: هم قوم أحرار ليس لي عليهم فضل في نسب ولا فعل؟ فقال: لتأتينّي بهم أو لأفعلنَّ وأفعلن! فقال له: رجونا من جنابك أمرًا حال دونه عقابك، ودعا ابنيه شراحيل وعبد الحارث فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شر جزائه … جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة … يعلّى عليه بالقراميد والسكب
وهي أبيات.
قال فقتله النعمان”.
ذكر الثعالبي قصة المثل في كتابه (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) ، ص 138 ثم ذكر الأبيات على أنها من قول شُرَحْبيل الكلبي.
أو رُويت على أنها لـلبُرَيق ( المرزُباني- معجم الشعراء)،
ووردت القصة كذلك في كتاب الجاحظ (الحيوان) ج1، ص 23، ويذكر فيه أن الراوي هو الكلبي.
وبعد،
فما أجمل قوله تعالى في هذا السياق:
{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، الرحمن، 60.
فلنحسن كما أحسن الله إلينا!
هل تعرفون أمثالاً في الدارجة في معنى “جزاء سنمار”، وفي معنى:
ومن يصنع المعروف في غير أهله *** يلاق الذي لاقى مجير أم عامر
نحو:
أجار المعروف لط كفوف
خيرًًا تعمل شرًا تلقى (نلفظها بتنوين الكسر- خيرٍ، شرٍ)
كل شي إن زرعته بتقلعه إلا ابن آدم إن زرعته بيقلعك.
ب.فاروق مواسي