زهرة الجرندس
تاريخ النشر: 16/01/14 | 1:03"أحد نصوص عملي الأدبي" زهرة الجُرُنْدُس أو بعض ما احتفظتْ بِهِ ذاكِرَةُ وَعْرَة "الذي صدر عام 2009 وقد كتبتُ في حينه على الغلاف الخارجي أنَّه "ليس عملا روائيا ولا شعرا، لكن ما يحاول المزج بينهما"
زهرة الجرندس
شعر مسعود الجليلي الْمُلقَّبُ بِوِلْدْ خَطّاف الْكَرْملي أحمد بن صَخْر، شعر أنَّ زهرة الجُرُنْدُس الْجَبَلِيَّة الطّالِعة فيما بقِيَ لهُ مِنْ الصخر الوعري اعتادتِ الإخْتِفاءَ عَنْ ناظِرَيْهِ في أواسطِ أيّار من كُلِّ عام لِتُعاوِدَ الطُّلوعَ والإزهارَ في الْعامِ الَّذي يليه، وَلِلدَّقة المُتَرَتِّبة عن الملاحظة البصيرية العاقلة يَكونُ ذلِكَ في مُسْتَهَلِّ آذار من عامٍ سيولدُ ذاتَ يَوم بَعْدَ توَقُّفِ زَخّاتِ الدَم عنِ السُّقوط والإنْهِمار في سماءِ وَطنه، تلكَ الزَّخّات التي امتلأ بها حَتّى جَمامِهِ الْجُرْنُ الصَّخْري في الوعرة المُحَبَّبَة التي عرفت وجع زوبعة الريحِ وَألَمَ عَصْفِها وَعَسْفِها، وَبَعْدَ لَجْمِ هُبوبِ تِلْكَ الرّيحِ وَوَضْعِها في الأسْرِ المُسالم، كيلا تعاوِدَ هُبوبًا وانْدِفاعًا زاحفين بِبُطون أقدامِ جُنودٍ وباصِقاتِ نارِهِم. وهذا اللَّجْمُ هُوَ، حقيقة، ما تمناهُ مسعود الجليلي طيلَة عُمْرِهِ الشَّقي وطيلة فُقْدانِهِ أجمَلَ ما في الْوطن: العَيْشُ الكَريم.
حَدَّثَ مسعودُ نفسه المُتْعبة، قالَ:
سَئِمْتُ مَشْهَدَ الدم والقَتلِ جوعًا ومُحاصَرَةً وأنا أنتظِرُ يَوْمَ وِلادَةِ "زهرة الجُرُنْدس" الموعودَ والمَحْلومَ به، أوْ ما أسرَّتْ لَهُ بِهِ دَوْرَةُ الطَّبيعة في تجَدُّدِها المألوف والمنتظر، حَتّى وَجَدَ نفْسَهُ يَصيحَ في فَزَعِ مَلْذوعٍ مِنْ لَذعَةِ أفْعُوانٍ شَديدِ الصُّفْرَةِ وَطَويلِ بَصْقةِ السّم:
لكن مَتى يَحينُ آذار! وكيف يكون أوان طَلَّتِهِ؟
حَدَّثَ نفسه ثانية:
يَوْمَها أرتاح حقيقةً وسَتأخذني الدَّهْشة الأشبه بلوْثَةِ جنونٍ عاقلٍ ساعتها فيَيْهَرُني حَدَّ الجُنون رَوْنقُ زَهرة الجرندس الجبلية ويسكرني عبقها الْفَوّاح، فاصْحو منفلِتًا ممّا أنا فيه!
كان جمالُ تلك الزهرة أكثر ما تنشده نفس مسعود وتبحث عنه جاهِدَةً في لحظة صَحْوَتِها ولحظة غَيْبوبتِها.
تَأمَّلَ مسعود زهرة الجرندس، تَأمَّلَها طويلًا، فأحَسَّ بِشَبَهٍ غَريبٍ بينه وبين تلك الزهرة لاحَظَ أنَّها عرفت كَيْفَ تجِدُ طريقها إلى الطلوع والإزْهارِ في موعِدٍ لا يتقدَّمُ ولا يتأخر، تطلع دائما في مُسْتَهَلِّ أذار من كُلِّ حول، تطلع من بين شقٍّ صخري، هو غاية في الضيق، وتَجِدُ دَرْبَها إلى مراح فضائي، تتراقصُ فيهِ أشِعَّة الشمسِ مع ما تبقى من ذَرّاتِ تُرابٍ عالِقٍ على الصَّخْرة.
عرف وجه الشبه بينهما، لكنه ودَّ في قرارَةِ نفسه لوْ تعلَّمَ منها الكثيرَ، وَدَّ لو كانَها! قالَ: مَنْ يأتيني بآذار؟ تعبت نفسي وما أكثر وأبشعَ مَنْ يُحاولون بكل وسيلة وثمن حجبه عنّي كيلا أجِدَهُ.
قالَ، مُحَدِّثًا نفسهُ ومُسْتدرِكًا خِشْيَةَ الْوُقوعِ في خطأٍ وفي نقيضِ ما عَلَّمَتْهُ التجْرِبة، قالَ: أقْصُدُ بهم ذاتي أو ذواتي الأخر، والأصح أقصدُ بعضَ ناسي وأكثر غزاةِ وَطَنِ كل ناسي. تَساءل في جهر:
غريبٌ ما كانَ، فكيْفَ لمْ نكتشِفْ عَسْفَ الرّيحِ قبْلَ الهُبوبِ المُخاتِلِ، لَمْ نَعِ خُبْثها، لم ندْرِك سَبَبَ جَشَعِها وَطَمَعِها، لَمْ نُحاذِرْ سُمَّها القاتلَ واندفاعاتِها الْجُنونية.
لاحَظَ مسعود سِرَّ فرادَةِ تلكَ الزَّهْرَة وَسِرَ ولادَتِها مِنْ جَديد. لاحَظَ ذلِكَ بَعْدَ طولِ تأمُّللٍ ومُعايَشَة.
كانتْ تَخْفي بِذْرَتُها عميقًا في شقِّ الصخرة، فَلا يَصِلُها عَسْفُ ريحٍ ولا تقلُّبات جنونِها. وكانتْ تَجِدُ هناكَ بَعْضَ ذرّاتِ تُرابٍ وبعض حَبّاتِ مطَر فتَلْتَصِقُ بها وَتنتظِرُ لَحْظة الطُّلوعِ، فَتتفتَّحُ أوْراقُها البيضاءُ المائِلَةُ إلى الصُّفْرَةِ قليلا، سَرْعانَ ما تَصيرُ فَوّاحة الْعِطْرِ، تعلو ساقًا هَشَّةً عَلَّمَتْها الحياة ما لم نتعلَّمهُ، عَلَّمتها كَيْفَ تُقاوِمُ عَسْفَ الرّيح بِصبْرٍ ومُغالَبَة وَجَع، تُغالِبُ العَسْفَ والخبث وتَصْمدُ لَحْظَةَ يَعِزُّ الصُّمودُ وَيَكونُ عِمْلَةً نادِرَة.
قالَ مؤكِّدًا إنَّ الْمَسْألة هِيَ في كَشْفِ تلكَ اللحظة، لَحظة تأتينا فيها الشَّجاعة والإرادة، المسألة هي كيفَ نبدأ الحذرَ مِنْ عسف ريح صرصر، الحذرَ مِنْ شُرورِها، نتمايَلُ قليلاً ولكن لا نقع.
دُهِشَ قليلا عِنْدَها مِمّا يرى، رأى نفسَهُ تتشَمَّم مَوْضِعَ هبوبِ الرّيحِ، ألقى بِجَسَدِهِ المُتْعَبِ قريبًا من شقِّ الصخرة وراحَ يتأمَّلُ زَهْرَة الجرندس الجبلية، مُحتَضِنًا الصخرة بكلِّ ما أوتِيَ من حُبٍ وصبر، أحسَّ بعبَقٍ كادَ يَنْساهُ، لمْ يَدْرِ مَصْدَرَه فلم يعرف أي عبقٍ كان ذلِكَ العبق! سألَ نفسه: أكان ذلك عبق عود زيتون، راح يتمايل راقصًا، أمْ عودِ تين، أم رُمّان، سِنْديان أمْ بلّوط. فرك أنْفَهُ قليلاً، لاحظَ أنَّ نفسهُ استراحت قليلاً حين أدرك أنَّ ذاكَ العبق طالِعٌ من شقِّ الصخرة، فلمْ يَعُدْ يَسْألُ نفسه: أيُّ عبق هو هذا؟ قالَ في صمتٍ هامِسٍ: المهم أنني بَدأتَ أتشمَّمُ دَفْقةَ عبق، فليس مُهِمًا ما يكون: عبق جعساس، أم عبق عصا الراعي، عبق نبتة الزوفا أو النعناع، عبق ورد جوري، أم عبق زهرة القندول أو البرقوق البرّي!
حَدَّثَ نفسه وكان لا يزالُ يحتفِظُ بحالة الجلوس مُتَّكِئا على موضع قريب من شق الصَّخرة، قالَ: أشُمُّ عبق الوعر الصخري، أعرفه منذُ وِلادتي وقد حَدَّثتني جدَّتي عنه فحببته لنفسي.
راحَ يَشُمُّهُ بحذرِ عاشقٍ فلا يَلْحقها من شمِّهِ أيُّ أذىً. غيبته رائحة العبق عن واقعه وأحسَّ بجسده خفيفًا، لكن شدَّهُ خوفه وحبه إلى شقِّ الصَّخرة وبات في حالة تأهُّبٍ نفساني خوفا من اندفاعات جديدة لريح صرصر وخشية حذِرَة من احتمال جنونها العاصف.
فكان في سرِهِ يَخْشى إنِ ابْتَعَدَ عَنِ الشّقِّ في الصخرة، حيثُ تشهَدُ زهرة الجرندس احتِمالاتِ تَجَدُّدِ إزهارِها في آذارِ الآتي، كان يّخشى تكرار ما حَدَثَ ذاتَ يَوْمٍ قبلَ سِتّينَ عامًا أوْ يَزيد، إذْ لا يزالُ يبكي ما حَدَثَ.
يَوْمها في ذاك العامِ الْمَشْؤومِ، تذكَّرَ مسعود جيدا وبألمٍ موجعٍ، يَوْمها ضاقَ حَوْلَهُ وبَيْنَ يَدَيْهِ فَضاءُ الوَعْرَة وفقد ما كانَ فيها مِنْ عَبَقٍ، هوَ عِطْرُ حياة.
ابراهيم مالك ، أهنئك ، جميل هو هذا الشعر ،ابراهيم مالك