موتٌ تحتَ النِّيل
تاريخ النشر: 17/01/14 | 1:46صمتٌ فوق النِّيل(1)
(من وحي غرقِ عبَّارةٍ في النيل، يوم الإثنين الخامس عشر من يناير الجاري، ووفاةِ بين مئتين وثلاثمئة سودانيّ، بينهم أطفالٌ ونساء، فرّوا من المعارك الدائرة في إحدى مناطق السودان، وكذلك من وحي الوحش البشري الذي يأكل العالمَ الإسلامي والعربي).
——————————
لتوفير الدراما، بالمعنى الراهن المتداوَل، والحصول على إثارةٍ وثيرةٍ ومجانيةٍ، لم نعدْ بحاجةٍ إلى "الغابة المقدسة"(2)، حيثُ لم يَبقَ من القدسيَّة سوى عبادةِ عُجول الذَّهب. ولم يبقَ من الغابةِ سوى سيقان الجميلات الُمرَخّمة (3) بالليزر والخمائلِ الافتراضية.
لعلَّ أفلامَ العنفِ والرُّعبِ لم تعدْ تكفي لإشفاءِ غليلِنا. كأنما كبُرت مقاساتُ الكاثارسيس(4) في الأزمنة الحديثة. والشاشةُ هي الشاشةُ، هي التي تضعُ المغامرات والويلات والجرائم والبطولات والقذائف والأشلاء الحقيقية على مائدة الطعام.
فلا خوفٌ علينا ولا يحزنون.
أصبح الميسورون منا، وغيرُ الميسورين بغالبيتهم، يضعون التسونامي وتحركات الصفائح التاكتونية(5) وفساتين صبايا دمشق الممزَّقة وعيونَ أطفالِ معرَّة النعمان المنثورةَ على قارعة الطريق والمياهَ المضخوخةَ من وجوهِ أهلِ بابل – يضعونَ كلَّ ذلك وغيرَ ذلك، في زاويةِ الصالون، بالضبطِ فوق مرْبَض الكلبِ المدلَّل، غيرَ بعيدٍ عن حوضِ الأسماك المذهَّبة، حيثُ تسبحُ بحُرِّية في سجنٍ من زجاج.
وهذا الطفلُ، ذو اللون البرونزي، كأنه قُدَّ من أرضٍ، ما اسمُه؟
عيسى؟ حسن؟أم حسين؟
موسى؟ محمد؟ يوسف؟ أحمد؟
أم ربما عبد الرحمن؟
ما اسمُ هذا الرضيع الذي مات للتوِّ موتاً طازجاً؟
وما قيمة الأسماء أصلاً؟ (6)
هل رضعَ هذا السودانيُّ، الملقى أمام الشاشات، من ثديِ أمّه، قُبيْلَ الرحيلِ طلباً للنجاةِ أو قُبيل الرحيلِ إلى الهلاك؟
"طافٓ يبغي نٓجْوةً من هلاكٍ فهلكْ" (7)
أم أن الأثداءَ جفّٓتْ بالقحط الجارف
والضروعَ بقيظٍ شقَّقَ ألواحَ الوصايا فهشَّمها،
والكرامةَ انكسرتْ حين فرَّ منَ الوجوهِ ماءُ الحياء؟
هل بكى الطفلُ، صاحبُ عينَي الغزالِ وساقَي الفهد، قبل أن يمتصَّهُ طميُ النِّيل العظيم؟
من يهمُّ وما يهمُّ اسمُ الصغير؟ ومن يهمُّ وما يهمُّ إن كانَ الميتُ مات خاليَ الوفاض؟ وما الفرقُ بين مئتين وثلاثمئة، في بلادٍ تنتجُ الجوعَ والنملَ وما يشبهُ الناسَ، وفي عالمٍ يرى في موتِ حشودٍ من السُّمر وأصحابِ الرؤوس السوداء (8) خسارةً ثانويةً لا بدَّ منها؟
لم نعدْ بحاجةٍ إلى هوليوود.
لكلِّ فريقٍ في هذا الشرقِ المُشبعِ بالأنبياءِ والديانات، رامبو خاصتُه وترسانةٌ من الكلاِم الصالح لكلِّ شيء.
لكلِّ فريقٍ إلهٌ يعملُ في خدمتِه.
لكلِّ قاتلٍ ذريعةٌ مُعدَّةٌ لتبرير الجريمةِ
ورداءٌ شيطانيٌّ يلقيه على المقتول.
وهذه الطفلةُ السودانيةُ التي لوَّحَتها شمسُ الجنوب، صاحبةُ الضفائر المتمردةِ على القوالب والمشابِك، ما اسمُها؟
مريمُ أم فاطمةُ أم حليمةُ أم سارايُ أم تامار أم تيريزا؟
وما أدراكَ، لولا سقوطهُا إلى الصمتِ المطبقِ في قعرِ النيل المتّحد بالبياضِ والزرقة (9) أو في بطن تمساحٍ، لكانت بشَّرَتْنا ببشارةٍ في يومٍ سيأتي أو أرضعتْ طفلاً سيجوعُ في مستقبلٍ منظور أو أرسلتْهُ في صندوقٍ على سطحِ الماء.
للنَيْلِ على دراما عصريةٍ، مليئةٍ بالإثارةِ على طَبَقٍ من الجِعة والبطاطوس والكاتشوب والفستقِ المقشَّر، وعلى الشاشات الآخذة في الاتساع، لم نعد بحاجة إلى ممثلين.
نهرُ النيلُ هو المسرحُ الدامي.
"بردى" هو ساحةُ الجريمة وغسّالة الدماء عن يدَي ماكبث المعاصر. (10)
ودجلةُ والفرات…
فمن يقتلُ الوحشَ صاحبَ رأس الثور؟ من يهبُنا خيطاً يقودُنا في رحلة الخروج من متاهتِنا؟ (11) وكيف السبيلُ إلى كسرِ الدائرة المفرَغة والمُفرِغة؟
لعلَّ الموتَ المُهَيمنَ والمُتبهرجَ بالألوان الزاهية والفاقعة يأتي بولادةٍ تصونُ الانسانية من الإنسان وتحمي الإنسانَ من الإنسانيةِ المزيّفة.
ولكن، قبل أن نستغرقَ في أحلامِ الأُفولِ والانبعاث وطقوسِ الموتِ والولادة، هل ثمةَ من يدلُّنا: ما اسمُ الطفلِ من معرَّة النعمان الذي سرقَ المؤمنونٓ عينيْه، قبل أن يرى فرسانَ الهيكل يشوونٓ لحمه الطريَّ؟ (12).
إضاءات:
(1) مفارقات مبنية على اسم الفيلم السينمائي، المبني على رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل".
(2) ترجمة حرفية ل "هولي وود".
(3) اشتقاقٌ من الرّخام.
(4) الكاثارسيس هي الكلمة اليونانية (أرسطو)، التي تعني التطهُّر من المشاعر والعواطف السلبية، خصوصاً الشفقة والخوف، جراء مشاهدة مسرحية مأساوية.
(5) ظواهر جيولوجية هائلة، تُحدثُ الزلازلَ وتنشأُ عنها أحياناً سلاسلُ جبلية وكوارثُ مثل التسونامي.
(6) إشارة إلى إحدى مقولات شكسبير الشهيرة.
(7) بيت من قصيدة الشاعرة " السلكة" من بني تميم، ترثي ابنها (شعر جاهلي).
(8) في أساطير وادي الرافدين، حيث ازدهرت حضارات سومر وأكاد وآشور وبابل، سُمي الناس فيها "أصحاب الرؤوس السوداء".
(9) النِّيل ينبع في بداياتِه برافدين من بُحيْرتين. أحد الرافدين هو النيل الأزرق والثاني النيل الأبيض. ويتحد الرافدان في جنوب السودان، ويشكلان ما هو معروفٌ بنهر النيل، الذي يمرّٰ بمصرَ ويصبُّ في البحر المتوسط.
(10) إشارة إلى ماكبث، بطل إحدى مسرحيات شكسبير، الذي استغرقَ في جرائمه، وقال إن مياهَ المحيطات لا تكفي لغسلِ يديه من الدماء.
(11) إشارة إلى أسطورة الوحش "مينوتور"، الذي له جسدُ إنسان ورأسُ ثور، وقصته مع "مينوس" ملك كريت، ابن الإله زيوس و"أوروبا".
(12) تتحدث المصادرُ التاريخية عن أن الصليبيين في إحدى حملاتهِم، سيطروا على معرّة النعمان بعد مقاومة عنيدة، فجعلوا من أطفال المعرة شواءً لهم.