جولة أدبية:إلى سد مأرب
تاريخ النشر: 29/12/16 | 0:10سألني باحث إن كانت قصة المثل “تفرقوا أيدي سبأ” قد وردت في الشعر العربي، فهو يكتب عن اليمن الذي كان سعيدًا.
أولاً لا بد من أن أبدأ بمعنى المثل:
يُضرب المثل إذا تفرّق القوم وتشتتوا، وأصل المثل له علاقة بهدم السد، وهجرة اليمنيين إلى الشمال.
ورد المثل في (مجمع الأمثال) للميداني: “ذهبوا أيدي سبأ أو تفرقوا أيدي سبأ” أي تفرقوا تفرقًا لا اجتماع معه.
جاء ذكر سبأ وتفرق أهل مأرب في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة سبأ:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}
وتمضي الآيات لتشير إلى تفرق القوم {ومزّقناهم كلَّ ممَزَّق}.
وجدت القصة مذكورة في شعر الأعشى-
(أعشى قيس) وهو يمدح قيس بن معديكرِب:
وفي ذاك للمؤتسي أُسوةٌ *** ومأرب قفّى عليها العرِمْ
رخامٌ بنته لهم حَِْمير *** إذا جاءه ماؤهم لم يرِم
فأروى الزروع وأعنابها *** على سَعة ماؤهم قد قُسم
فعاشوا بذلك في غبطة *** فجارَ بهم جارفٌ منهدمْ
فطاروا سراعًا وما يقدرو *** ن منه لشرب صبي فُطم
يقول الشاعر إن هناك عبرة في قصة مأرب، وتدمير السيل، فقد بنته حمير من الرخام، فحفظ لهم الماء كثيرًا موفورًا، وأروى الزروع والأعناب، فعاشوا في غبطة ونعيم حتى دهمهم السيل جارفًا، ففرّق شملهم، وقذف بملوكهم إلى البيداء، وبدّلهم من الماء سراب الصحراء، فأصبحوا لا يملكون منه شرب صبي مفطوم.
من معاني العرِم أنه وادي سبأ، وكانت تجتمع إليه سيول تتدفق، فسدوا ما بين الجبلين بالرخام والحجارة، وجعلوا له أبوابًا.
من العجيب أن أكثر الروايات القديمة تتهم الجُرَذ (أو الفأر) أنه سبب الخراب، فهذا حازم القرطاجني نفسه يقول:
وقد أعاد الفأر سد مأرب *** دكًّا كأنْ لم يبنِه من قد بنى
وورد ذكر المثل في شعره:
سبت العِدا حتى غدَوا أيدي سبـا ** وتمزّقوا في الأرض كل ممزَّق
ويقول أحمد بن شرف:
ولا تحقِرِ الخصم الضعيف لضعفه *** فكم خرب الجرذان في سد مأرب
حتى تصدق أنهم “أخذوا الأمر جِدًّا” فالجاحظ في كتاب الحيوان يتحدث عن فأر سيل العرم “فهو الذي خرقه، وبدّل نعمتهم بؤسًا، وعزهم ذلاً، إلى أن عادوا فقراء” (الحيوان، ج5، ص 547.) ولكن الجاحظ مع ذلك في موقع آخر من كتابه له رأي آخر:
إذ قبل أن ذكر الشروح في مسألة السدّ والفارة كان قد ذكر عن هذه الحكاية وحكايات أخرى أن “كلها طريف غريب، وكلها باطل، والأعراب تؤمن بها أجمع”- الحيوان، ج6، ص 80.
ورد ذلك في معرض شرحه لقصيدة الحكم بن عمرو البهراني في غرائب الخلق، وقد ورد فيها:
خرقتْ فأرة بأنفٍ ضئيلٍ *** عرِمًا محكمَ الأساسِ بصخرِ
فجّرته وكان جيلان عنه *** عاجزًا لو يرومه بعد دهر
(جيلان= فَعَلة الملوك)
الحيوان، ج5، ص 151.
…
وفي العرِم قال النابغة الجعدي (أو أمية بن أبي الصلت):
مِن سَبَأَ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دونِ سيلِه العرِما
..
وقرأت أبياتًا لأبي الطَّمحان القَيني يصف (مأرب) وكان ذلك اسم القصر قبل أن تسمى المدينة:
ألا ترى مأربًا ما كان أحصنه *** وما حواليه من سور وبنيان
ظل العِباديُّ يُسقى فوق قُلَّتِهِ *** ولم يهبْ ريبَ دهرٍ حقَّ خوّان
وفي (معجم البلدان) لياقوت الحموي استفاضة في الشرح عن السد وبنائه وخرابه (مرة أخرى “فجّرته فأرة ليكون أظهر في الأعجوبة”- انظر الكتاب ج5، مادة “مأرب”.
شاهد الحسن الهمداني السدَّ ووصفه في كتابه المسمى بـ (الإكليل ص 54، ص 135) وهو من أهل أوائل القرن الرابع أن هذا السد حائط طوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعًا وعرضه مائة وخمسون ذراعًا .
لا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك. والظاهر أن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم، فقد ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى أصابها الخراب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات .
من الطريف أن أذكر أن الأعشى في قصيدته قبل حديثه عن السيل، الذي جعله عبرة للمؤتسي (أي يجعله أسوة لنفسه أو عزاء له) كان قد ذكر حكاية ما جرى لقصر الحَضر، حيث عاش أهله في طُمأنينة ناعمين، حتى دهمهم سابور بجنوده، يضربون فيه بفئوسهم حولين كاملين، فما حماه صاحبه ولا دفع عنه، وما كان لمثل ساكنه أن يدوم له نعيم، وحاول صاحبه استنقاذه وتحريره، فهاجمه ليلاً على غير طائل، وراح يدعو قومه مستثيرًا يطلب إليهم أن يموتوا كرامًا بأسيافهم، ويستحثّهم قائلاً: الموت خير من حياة الذل، وإنما يلقى الموت من جاء أجله. ثم ربط الأعشى قصة القصر بحكاية ما جرى لسد مأرب.
..
وهكذا فإن القرآن الكريم تحدث بصورة موازية عن جنتين أغدقتا على أصحابها الخير والنعمة والأطعمة، فإذا بالخراب يحل بعد هدم السد بسبب عصيانهم، وتصبح الجنتان المثمرتان جنتين بلا ثمر يؤكل.
…
هناك من ذكر أن القصة وردت في حديث شريف، وانتبهوا إلى عودة حكاية الجرذ!
يذكر أبو الفضل الميداني في (مجمع الأمثال) حديثًا شريفًا معَنْعَنًا:
المثل – 1454 –
“ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيدي سبا-
أي تفرقوا تفرقًا لا اجتماع معه.
أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، أخبرنا الحاكم أبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا أبو خليفة، حدثنا أبو همام، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي جناب، عن يحيى بن هاني، عن فروة بن مسيك، قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
يا رسول الله أخبرني عن سبأ، أرجل هو أم امرأة؟
فقال: هو رجل من العرب، ولد عشرة- تَـيامنَ منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة.
فأما الذين تيامنوا فالأزْد وكِنْدة ومَذْحِج والأشعرون وأنمار منهم بجيلة.
وأما الذين تشاءموا فعامِلة وغَسّان ولَخْم وجُذام- وهم الذين أرسِل عليهم سَيل العَرِم، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشِّحْر وأودية اليمن، فردموا ردْما بين جبلين، وحبسوا الماء، وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا، وكثرت أموالهم، فلما كذّبوا رسولهم بعث الله جُرَذًا (نقبت؟) ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنَّتيهم فغرّقهما، ودفن السيل بيوتهم، فذلك قوله تعالى {فأرسلنا عليهم سيل العرم، والعرم : جمع عَرِمة وهي السِّكْر الذي يحبِس الماء.
وقال ابن الأعرابي: العَرِم- السيل الذي لا يطاق، وقال قتادة ومقاتل : العرم- اسم وادي سبأ.”.
..
وأخيرًا:
ذكر معجم (الوسيط) من معاني العرِم- الجُرَذ، “لأنه كان سببًا لسيل العرم”- هكذا!!
ب.فاروق مواسي