لماذا يكتب المبدع؟
تاريخ النشر: 17/01/14 | 6:12من أولويات النقد الأدبي أن يحاول تلمّس دافع الكتابة لدى المبدع واستشفاف معاناتها، وذلك من خلال شمولية يكون التحري فيها عيّـنة معبرة، قد تصل بنا إلى وعيٍ ما في فهم النص.
قد تتنوع الأسباب: من هروب من الواقع إلى تغلّـب عليه، من تجميل للحياة إلى وصف لقبحها، من تسلية ومتعة إلى نضال ومغالبة، من ممارسة لحرية الكاتب إلى تمرين للقارئ أن يمارس حريته هو، من الوصول إلى المطلق وحتى تقديس الحياة والطبيعة وتسجيلها إعجابا وعبادة، من الطفولة واللعب إلى المسؤولية حتى في تفسير الطبيعة وتغييرها.
ربما يختصر أحدهم الطريق ظانًّـا أن الكتابة استمرار للتكسب، وهي بهدف منفعي مادي أسوة بغيرها من الصنائع. ومع أن ذلك لا تثريب فيه على المبدع، إلا أن حرفة الفقر أدركت الأدباء غالبًا، حتى أصبح (عيش الأديب) كناية عن الفاقة. ولا أظن أن أرسكين كالدويل- وهو من أكثر كتاب القصة رواجًـا في العالم- كان مجافيـًا الحقيقة في إجابتــه لمن سأله: هل تكتب لتكسب؟ فقال:
"أكتب لأنني أحب أن أكتب، ولن أستطيع أن أمنح الكتابة كل حياتي إلا إذا استطعت أن أحصل منها على قوت يومي".
إذن لماذا يكتب المبدع؟
ها هو جان كوكتو يعترف:
"الشعر ضروري، وليتني أعلم لماذا؟"
هل يكتب الكاتب تنفيسًا عن مكبوتات الجنس كما يرى فرويد؟
هل يكتب تساميًا من شعور بالنقص وإلحاحـًا لاستيفاء ذاته كما يرى أدلر؟
هل يكتب لأنه محب للظهور… لانه يحب نفسه؟
لاستمرارية حضوره؟ وحضوره يعني حضور أفكاره التي يخاف ألا تدوَّن أو أشعاره التي قد تضيع.
لماذا هذا الحرص على خلود المادة الأدبية وسيرورتها؟
مهما تكن الإجابة فإن الكتابة قَـدَر، هي اضطرار وقسر، لا تأتي طواعية وترفــًا، بل تأتي تعبيرًا عن قلق ينتاب المبدع، فيعبر عنه حتى "يغطي" ما نقص، أو يكمل وجودًا ما، يستمر ليبحث عن التوافق بينه وبين مجتمعه. ذلك لأن من طبيعة المبدع أصلاً أن يرفض القائم استحثاثًا للتغيير نحو الأفضل والأمثل….. إنه يبحث عن زمن ضائع قد يستعيده بصورة جديدة، أو يناغي حاضرًا مؤلمًا أو مسعدًا يخاف أن يمضي بدون ذكر، أو ذكريات، أو ينتظر مستقبلاً كالمهدي يحمل أوتوبيا وحلمًا، أو كإرميا يحمل مخاوف وتحذيرًا……
إذن فالمبدع في الزمن يستنطق حرية نسبية تؤاتيه ليسيطر على الأحداث، وأحيانـًا يبكيها. فيه نوع من الطفولة، يعيد تركيب الأشياء والعناصر في علاقات جديدة، أحيانــًا يرضى منها، وآنًا يسخط عليها.
في الإبداع نضال ومغالبة وإيمان، ومن هنا نتفهم عبد الله نديم وقد قضى من حياته عشر سنوات في أشق الظروف، وهو متخفٍّ. وقراءة في سِـيَـر بلزاك ودستويفسكي وتولستوي وفلوبير وإميل زولا وغيرهم ترينا كم ضحى هؤلاء، لأنهم مؤمنون بقيمة ما يكتبون وجدواه. فالكتابة تضحية وجرأة، والجبن لا يتيح الفن والإبداع، وإنما يخلق الاتكالي الوصولي.
إن رؤيا الكاتب الفنان سر عذابه وسر القداسة التي تكتنف هذا العذاب، و "الوصول إلى المطلق يستلزم العرق والدموع واحتراق الأعصاب" – كما يقول شكري عياد في مقدمة كتابه "الرؤيا المقيدة".
والكتابة – كما يرى سارتر – كشف للعالم، ثم اقتراح المبدع واجبًا يقوم به للقارئ، وإنه يلجأ إلى ضمائر الآخرين بغية الاعتراف به عاملاً جوهريـًا في مجموع الكون (انظر: سارتر- "ما الأدب"، ترجمة محمد غنيمي هلال ص65).
إن تغيير العالم كان هدفًا ماركسيًا يعمد إلى تجميل الحياة وتزيينها بما هو متعة للإنسان وبناء لوجوده. فليس الأدب لهوًا وتسلية، وليس منقطعـًا عن التواصل، وإلا فإنه يبقى في أحسن الحالات جوهرة في صدفة في خضم.
والمبدع يجب أن يشعر بأنه ضروري، بالإضافة إلى العالم، وأن الموضوع الذي ينتجه يكون موضوع نظر دائم من المتلقين ومنه أولاً.
عند بدء دراستي الجامعية التقيت شاعرًا عبريـًا مغمورًا كنت أحس عبقريته في حركاته، كان يكتب أو يرصف كلمات يؤديها بانفعال، وكنت ألمس الصدق في كتابته، لكن كلماته كانت مبتورة، كان يكتفي أحيانـًا بحرف هنا وخط هناك (قد تسمونه مجنونًا). ومهما شهدت من عبقرية هذا الطالب فليس صحيًا أن المرء يكتب لنفسه، وإذا شرع المرء في تدوين نفسه فمبلغ جهده أن يستديم هذه العواطف في نفسه واهية ضعيفة كما يقول سارتر (م. ن ص 49)، وذلك لان الكتابة تحتاج بعد ذلك إلى معاودة وتنقيح وتهذيب وإضفاء الطابع الفكري عليها، والفكر فيه تواصل وعقلنة ورسالة.
يبقى سبب آخر للإبداع أقتطفه من صلاح عبد الصبور في كتابه "حتى نقهر الموت"، حيث يقول في التقديم:
"لا يقهر الموت إلا الحجر والكلمة، والكلمة أطول عمرًا من الحجر، وأصلب على الزمن، وأقدر على مغالبته".
وكيف يقهر المبدع الموت إن لم يكن بمناضلة وجراءة ومسؤولية وتوجيه؟
………………………………………………………
من كتابي "أدبيات"- مواقف نقدية. القدس- 1991، ص 32- 34.