من فضائل النثر
تاريخ النشر: 28/12/16 | 18:40كنت قد تحدثت عن بعض فضائل الشعر، فأراني اليوم آتي إلى بعض فضائل النثر مما أشار إليه عدد من أعلام الأدب، خاصة وأن المبتدئين في الكتابة يظنون أن الشعر هو المقياس وهو الأساس، فيتقاطرون عليه بحق وبغير حق، غافلين عن درر النثر، وفيها إبداع وإمتاع.
لكلٍ رأيه في الأفضلية أو الأولية، وله أن يعمد إلى الصناعتين معًا، فيسبر أسرار كل صناعة، ليروعه البيان في أي منهما- وليستلهم وجوه البراعة أنّى وجدها.
يذكر أبو حَـيّان التوحيدي نصوصًا تجعل الأولية للنثر، وذلك في كتابه (الإمتاع والمؤانسة ج2، ص 132- “الليلة الخامسة والعشرون”):
“وسمعت أبا عابدٍ الكرخي صالح بن علي يقول:
النثر أصل الكلام، والنظم فرعه؛ والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل؛ لكنْ لكل واحد منهما زائناتٌ وشائنات، فأما زائنات النثر فهي ظاهرةٌ، لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعِيةٍ عارضة، وسببٍ باعث، وأمرٍ معين.
قال: ومن شرف النثر أيضًا أن الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرسل بالتأييد الإلهي مع اختلاف اللغات كلها منثورةٌ مبسوطة، متباينة الأوزان، متباعدة الأبنية، مختلفة التصاريف، لا تنقاد للوزن، ولا تدخل في الأعاريض؛ هذا أمرٌ لا يجوز أن يقابله ما يدحضه، أو يعترض عليه بما يُحْرضه.
قال: ومن شرفه أيضًا أن الوَحدة فيه أظهر، وأثرَها فيه أشهر، والتكلفَ منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب، ولا توجد الوحدة غالبةً على شيء إلا كان ذلك دليلاً على حسن ذلك الشيء وبقائه، وبهائه ونقائه […..].
قال: ألا ترى أن الإنسان لا ينطق في أول حاله من لدن طفوليته إلى زمانٍ مديدٍ إلا بالمنثور المتبدد، والميسور المتردد؛ ولا يُلهَم إلا ذاك، ولا يُناغَى إلا بذاك؛ وليس كذلك المنظوم، لأنه صناعي؛ ألا ترى أنه داخلٌ في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف، مع توقي الكسر، واحتمال أصناف الزِّحاف، لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية، دخلته الآفة من كل ناحية.
قال: ومن شرف النثر أيضاً أنه مبرأٌ من التكلف، منزهٌ عن الضرورة، غنيٌ عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، وما هو أكثر من هذا مما هو مدوّن في كتب القوافي والعروض لأربابها الذين استنفدوا غايتهم فيها.
وقال عيسى الوزير: النثر من قِبل العقل، والنظم من قبَـل الحس”. (ن.م- ص 134)
صنّف أبو إسحق الصابي رسالة في تفضيل النثر على الشعر، ومما ورد فيها:
“النثر اشرف جوهرًا والنظم أشرف عرَضًا، لأن الوحدة في النثر أكثر، والنثر إلى الوحدة أقرب، فمرتبة النظم دون مرتبة النثر، ولأن الواحد أول والتابع له ثان”.
التوحيدي: (المقابسات)- المقابسة 65، ص 262.
هناك نثر كثير يرِد فيه الوزن، ولا نستطيع أن نسميه شعرًا، فالنية أو القصد ما يحدد ذلك، فالصديق الشاعر محمود مرعي مثلاً سيصدر له قريبًا كتاب “إعجاز القرآن في الإيقاع والبيان”- الجزء الأول، يبين فيه آيات كثيرة أنها انقادت للوزن، أو أن الوزن انقاد لها، ولكنه لا يسميها شعرًا، لانعدام القصدية في ذلك، فالقرآن ليس بقول شاعر، والرسول لم يُعلَّم الشعر وما ينبغي له- {إنْ هو إلا ذِكْرٌ وقرآنٌ مبين}- يس، 69، فالرسالة النبوية وردت نثرًا، وفي هذا كفاية للكثيرين في تفضيل النثر على الشعر،
وكذلك في الدعوى بأن الشعر تصوّن عنه الأنبياء. ثم إن مسألة الإعجاز في القرآن كانت في النثر تحديدًا.
ينقل ابن الأثير بعض ما أورده الصابي في رسالته – في تفضيل النثر:
“ثم قال بعد ذلك والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم التي يرمون إليها وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء والمديح والهجاء، وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سَداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك.
هذا ما انتهى إليه كلام أبي إسحق في الفرق بين الترسل والشعر”.
(المثل السائر، ج2، ص 392- 394.)
جديرة بالذكر والتأمل ملاحظة قرأتها قبل أن أختم القول:
من أوصاف الخطابة أن تُوشّح بالقرآن والأمثال، “فإن كانت الرسالة إلى خليفة فإن محله يرتفع عن التمثيل بالشعر في كتاب إليه، ولا بأس بذلك في غيرها من الرسائل”.
انظر:قُدامة بن جعفر. (نقد النثر)، ص 96.
ب.فاروق مواسي