إبتساماتٌ إن لم تعلِّم تعلِّم(1)
تاريخ النشر: 01/01/17 | 5:35كتبتُ عشية خروجي الى التقاعد المبكر من وزارة المعارف سنة 1994، بعد عمل استمر ثلاثة عقود متتالية، رسالةً وداعية الى زملائي المربين، تضمّنتْ فيما تضمنتْه، الفقرةَ التالية: ” إذا اردتَ ان لا تتوتر، فلا تعتقل نكتة في سياقها. اطلق عنانها ولو ملثمة، واجعلها تزرع بسمة على شفاه مستمعيك، بسمةً تبدد ضجرهم وتخفف توترهم وتشق طريق المادة التعليمية الى قلوبهم وعقولهم”. وذلك إيمانا مني بان النكتة، أو النادرة، المناسبة في سياقها الصحيح، إن لم تعلِّم (بمعنى إكساب معرفة للآخرين) فهي، على الاقل، تُعَلِّم اي تترك علامةً اي اثرا في نفوس الاخرين. ولعل المقالة التالية توضح ما اقول:
عرفتُ وليد طالبا في دار المعلمين في حيفا، سنة 1966 ثم زميلا في وزارة التربية والتعليم. توثقت بيننا اواصرُ صداقةٍ شخصية تعدّت فترةَ علاقاتِ العمل، فلم تنقطع بانقطاعها، بل استمرت وتوطدت اكثر بعد خروجنا على التقاعد.
اتصلت بي زوجةُ وليد لتكشف لي عن خيوط “المؤامرة” التي تحيكها ضد وليد، إحتفالا بعيد ميلاده السبعين، طالبة مني الانضمام الى حلقة “المتأمرين”، فلبّينا (زوجتي وانا) الدعوة بسرور كبير.
لدى دخولنا بيت وليد، سرني جدا أن ارى هناك مجموعة من زملائه المعلمين، بينهم مروان ومازن وعدنان الذين اتوا مع زوجاتهم لمعايدة وليد وللتهنئة ايضا بمولد حفيده الثالث. لم يكن للكلفة بيننا موضعا، فانا اعرفهم جميعا طلابا في دار المعلمين ومربين في حقل العمل، منهم من كان مديرا لمدرسة ابتدائية كوليد ومروان ومنهم من كان مرشدا ومعلما كمازن وعدنان. انساب الحديث بيننا والحديث- كما تعلمون- ذو شجون. فوجدنا انفسنا جميعا منغمسين ومنجرفين في البحث عن اسم للمولود الصغير، في جو عبق بنوادر الماضي وذكرياته، وطغى عليه فرحُ فرحتين: عيد سعيد ومولود جديد.
قال وليد ان هذا اللقاء الذي يجمعنا وقضية الاسماء التي تشغلنا الان، يعيدانه خمسين سنة الى الوراء، ويجعلانه يتذكر نكتة النرجس التي كان قد سمعها مني اثناء احدى محاضراتي في إطار اساليب تدريس العلوم. ثم وجه الحديث الي قائلا: “ألا زلتَ تتذكرها؟”. وقبل ان اقول له “تفضّل كمّل” ضحكتُ لاني تذكرت فعلا تلك النكتة (اي نكتة نرجس) التي كنت ارويها امام طلابي. أجل تذكرتُها فكادت تعتقلني هناك، إلا اني ادركتُ للتوّ اني شطحت بافكاري، وانقطعتُ هنيهة عمّن حولي، فسارعت لاستدراك الموقف قائلا لوليد: “تفضل إروِ النكتة”.
ابتسم وليد قائلا: “لن اروي النكتة إلا بعد ان اصف الاجواء التي قيلت فيها. دخل الاستاذ حاتم الى غرفة صفنا في ساعات ما بعد الظهر. كانت تلك الحصة، مخصصةً لاساليب تدريس العلوم وكان من المفروض ان تتمحور حول “التنويع في وسائل الايضاح ومساهمته في جعل تدريس العلوم ممتعا”.. كان الطقس حارا ورطبا، أما المكيفات فلم تكن شائعة آنذاك. باختصار كان جو الغرفة خانقا مرهقا وكنّا نترنح بين صحوة وغفوة. تأملَنا مليّا الاستاذُ حاتم ثم قال مبتسما، “اسمعوا هالنكتة”. صحا من الطلاب من كان غافيا، واشرأبت الاعناق واصغت الاذان، فقال:” تأخر احد الشباب عن الزواج، فاخذت الاقتراحات تتوارد عليه من الاهل والاصدقاء، لكنه لم يجد مبتغاه. اخيرا، اراد احد اصدقائه ان يداعبه، فاقترح عليه ان يعرِّفَه على صبية اسمها نرجس، مؤكدا له انها اسم على مسمّى. تفاءل “العريس” خيرا بالامر، قائلا لنفسه، وهل هناك اجمل من زهرة النرجس ذات القامة البارزة وذات الاوراق الصفراء المحاطة باوراق بيضاء. وافق على الفور لكنه ما إن رأى العروس المقترحة، حتى ذُهل من بشاعتها، فذهب ليعاتب صاحبَ الاقتراح الذي قال له: ” إنها فعلا كزهرة النرجس”.استغرب “العريس” هذا الرد، ليصرخ من اعماق حنجرته: “بس كيف؟!!”. فاجابه”صاحب الاقتراح”: “ألم ترَ يا رجل، بان وجهها اصفر وشعرها ابيض وساقها طويلة ورفيعة وخضراء”…
ما ان هدأت موجة الضحك التي اثارتها قصةُ وليد، حتى تنحنح مروان قائلا أن الشيء بالشيء يُذكر، وان قصة وليد وما تضمنته من إشارة واضحة لاهمية النكتة كوسيلة لتبديد ضجر المستمعين ولتركيز انتباههم ولاثارة إهتمامهم، جعلته يتذكر بدورِهِ نادرةَ “المعلم المشاكس” التي كان قد سمعها مني في اجتماع لمجموعة كبيرة من مديري المدارس الابتدائية العربية في لواء الشمال. مداخلة مروان هذه، اعادتني بالذاكرة نصف قرن الى الوراء، فتذكرتُ فعلا ذلك الاجتماع الذي كنتُ قد بادرت لعقده في اواسط السبعينات، في المركز التربوي في الناصرة، بشأن تطبيق منهاج جديد لتدريس العلوم، في السنة الدراسية التالية. كما تذكرتُ انني عندما دخلت الى غرفة الاجتماع، كان يرافقني بروفيسور دافيد حن عميد كلية التربية في جامعة تل-ابيب آنذاك ورئيس وحدة تطوير مناهج تدريس العلوم، الذي لبّى دعوتي فحضر خصيصا الى الناصرة، لتقديم محاضرة لمديري المدارس عن اهمية تطبيق المنهاج الجديد. لاحظتُ ان معظم المديرين يبدون متعبين منذ بداية اللقاء ربما بسبب موعد هذا الاجتماع المعين في الساعة الثانية بعد ظهرِ يومِ عملٍ و/او ربما بسبب الطقس الحار المألوف في تلك الفترة من السنة (اي مطلع شهر حزيران) سيما داخل غرفة مكتظة ومخنوقة التهوئة في عهد ما قبل دخول المكيفات الى المؤسسات التربوية . فخشيتُ ان يستولي النعاس على البعض منهم، فلا احقق هدفي من ذلك الاجتماع، فضلا عن إحراجٍ مُحتمَلٍ امام ضيفي. لذا، قررت ان استنجد بنكتة او بنادرة تنقذ الموقف، فخطرت على بالي نادرةُ المعلم الذي دأب على مشاكسة مدير مدرسته، مما جعل المدير يضيق به ذرعا ويبحث عن وسيلة للاقتصاص منه.
تحيّن المدير فرصة بداية الدراسة في الجامعات، ليفرض على المعلم ايّاه، تغييرا في برنامج عمله الاسبوعي، يقتضي تعليم حصة ثامنة في ذات اليوم الذي يستكمل فيه المدير في الجامعة. كان المدير على قناعة بان هذا التغيير كفيل باستفزاز المعلم وإثارته وتعكير مزاجه…مرت الاسابيع المتتالية، ولم يسمع المدير من المعلم إحتجاجا او حتى اعتراضا، كما كان يتوقع. تصور المدير ان الاجراء الانتقامي قد ليّن عريكة المعلم وروّض مزاجه العدواني، فقرر(اي المدير) ان يقابل الليونة بمثلها. عمل المدير على تلطيف الاجواء بينه وبين المعلم، وتصور انه قد خلق مناخا مريحا لإبداء ملاحظة طالما راودته، فقال للمعلم وهما يشربان سوية فنجانا من القهوة: “انا مبسوط منك يا استاذ، لانك لم تعترض على الحصة الثامنة التي ادخلتُها على برنامج عملك الاسبوعي”. فاجاب المعلم بابتسامة: “وليش لازم اعترض؟! فانا عندما ادخل الى غرفة الصف في الحصة الثامنة، أجدُ الاولاد طابين(نائمين) على طاولاتهم، فاطبُّ انا على طاولتي، تاركا لجرس المدرسة مهمة إيقاظنا”.
ولحديثنا تتمةٌ في مقال لاحق…
د. حاتم عيد خوري